قصة اليوم الأول للمدرسة... والضحايا!!

قصة اليوم الأول للمدرسة... والضحايا!!

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
كان الاستنفار في البيت شديداً منذ أيام تحضيراً للمدرسة؛ فبين تأمين القرطاسية واللباس المدرسي وما لا ينتهي من الطلبات يتشظَّى الأهالي وراء أبنائهم. ثم جاءنا اليوم الموعود، فدوّت صفارات الإنذار في المنزل منعاً للنوم؛ فالقريب من البيت والبعيد لا بد من توصيله في اليوم الأول!

حينما نزلنا إلى الشارع، وجدنا الأهالي أكثر من الطلاب؛ فهذه تسحب وراءها اثنَين للمدرسة، وفي عربة الرضَّع مرافقٌ، وذاك يكوّم فوق الدراجة النارية ثلاثة من مدارس مختلفة تعرفهم من لباسهم، وثالث.. وعاشر.

لكن كل ذلك لم يكن شيئاً حتى وصلنا إلى المدرسة الأولى!

طلاب وطالبات سوريون وأتراك، يختلطون فلا تعرفهم إلا إن تناهت إلى سمعك بعض كلمات عربية أو تركية. منهم مَن يدخل فلا يخرج، وتبتلعه المدرسة لأنه في دوامه الصحيح، وآخرون لا يكادون يدخلون حتى تلفظهم لأنهم في الدوام المسائي.. لكن واحداً دخل وخرج ليس كغيره!


الطلاب في فرح للعودة إلى المدرسة وفي أحسن مظهر، وهو يُواري وجهه بقبعة كبيرة في كنزة شتوية يلبسها ونحن يغلي دماغنا من حرارة الشمس! دخل، لكنه لم يدخل نحو حرم المدرسة، بل نحو حاوية القمامة بجانب السور الداخلي، فنبش فيها واستخرج بعض البلاستيك والكرتون، وأرسل نظرة حزينة نحو الطلاب في عُمره يدخلون المدرسة بثياب نظيفة يصحبهم أهلوهم حتى صفوفهم. أدار ظهره إلى المدرسة والطلاب، وعاد ليجرّ عربة يدوية له خلف سيارتي، ومضى نحو المجهول!

لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها أمثال هؤلاء الأطفال ممن طحنتهم الحياة، فضاعوا بين مخالبها وخسروا تعليمهم وطفولتهم، لكن الموقف هزّ كياني؛ في اليوم الأول للمدرسة، ويدخل وهو في عُمر الدراسة ليجمع ما يبيعه من القمامة، ثم يدير ظهره للدراسة ويمضي وهو لا يعرف أكثر مما يدخل جيبَه نهايةَ النهار من ليرات؛ يالله لهذه الطفولة في هذه الحياة!!

مضيت غير بعيد عن المدرسة وصورة ذاك الطفل المجهول في رأسي لا تفارقني، لكنه لم يكن الضحية الوحيدة؛ فالإشارة توقفت ليصدمني طفل آخر وراء (معلّمه)، ولكن ليس (معلّم) المدرسة!

إنه (معلّم) إسمنت أو دهان لم أتبيّن بدقة لسرعة اللحظة؛ لكنه طفل آخر ضحية للعمل يُحرم  التعليم في اليوم الأول للمدرسة!

وعند الزاوية كانت مجموعة من الطالبات ينتظرن الحافلة؛ فتذكرت بناتٍ من أقاربنا في أعمارهنّ حُرمْنَ الدراسة وانخرطْنَ في دوّامة الزوجية والأمومة، فكنّ من ضحايا طفولتنا المسروقة المحرومة حقّ التعليم! وتوالت الضحايا تعرض لي واحدة تلو الأخرى؛ فأختي لم تستطع إرسال أطفالها إلى المدرسة للعجز عن استيفاء الأوراق المطلوبة! وابنة خالي دخلت بابنتها مريضة للعلاج، ومعها أخواتها حتى لا يواسينها؛ فأرادت ألا يتأخرن عن التعليم، فظنّت الأمر متاحاً، فراحت تطرق أبواب المدارس لتسجيل بناتها، وكل مدرسة تفتنّ في الطلبات، فجاءتنا في اليوم الأول مع بناتها بعد أن يئست من تسجيلهنّ؛ والدموع في عيونهنّ لأنهنّ متفوقات وحُرمنَ المدرسة!

فدخلت وسائل التواصل أريح نفسي، فطالعتني أول ما طالعَني صفحة مدرسة ابن أختي، وإذ فيها: نعتذر من طلابنا عن عدم بدء الدوام يوم الاثنين 9 سبتمبر/ أيلول ليكون يوم الأربعاء! فكانت صدمةً في تأخير الطلاب عن الدراسة وتأخُّر المدرسة في الإعلان؛ لكنني علمت بعدها أن المنظمة الكافلة تأخرت في تأمين المبنى المطلوب، لأنها مدرسة سورية مؤقتة وعليهم استئجار مبنى لها على نفقتهم، وهم ينظرون إلى المشروع على أنه لم يعد مجدياً؛ فيكملون في كفالة المدرسة وفاءً لرسالتهم في تعليم الأطفال السوريين!

لم أستطع أن أحصي الضحايا من الأطفال في يومنا الأول للمدرسة، ولكل ضحية من هؤلاء قصة؛ فأنا أجزم بأن ليس فيهم مَن ترك دراسته مختاراً، قرأت ذلك في نظرات الطفل يحمل القمامة وهو يخفي وجهه خجلاً منّا؛ ونحن أحقّ بالخجل منه! نعم؛ فالمسؤولية في هذه الكارثة عامّة.

قد تتنصل الدول المضيفة من المسؤولية بعجزها عن القيام بأطفالها، لتمنَّ علينا بكل ما تقدمه لأطفالنا عندهم؛ فنرضَى بأي شيء يُقدَّم ونشكرهم ونرفع صور قادتهم! وننسَى أن لنا حقوقاً عليهم إنسانيةً وإيمانيةً وقانونيةً في تعليم أطفالنا، وإن عجزوا فليتركوا لنا تعليمهم ولا يقطعوا علينا الطريق في ذلك بقوانين وأنظمة ترمي أطفالنا في الشوارع، وفي أحسن الأحوال تتركهم في البيوت بلا تعليم؛ بحجة أنهم لم يوافقوا أنظمة الدولة وقوانينها!!

لكن هذا لا يعني بحالٍ أنها مسؤولية الدول المضيفة للاجئين السوريين بعد أن لم تعد لهم دولة، وانتثروا في الأرض حتى القطب الشماليّ! فلو جئت تعدّ المنظمات المرخصة للعمل الإنساني للسوريين في تركيا مثلاً، لتجاوزت المئات؛ فهذه وإن كانت في أكثرها مربوطة بيد داعميها من الخارج لعجز منظمات المجتمع المدني السورية عن موارد خاصة لها حتى اليوم، ولا تجد مساحة كافية من الحرية في ما تطرحه؛ فعليها نصيبها من المسؤولية في برامجها ومشاريعها، لا يعفيها شيء من مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية تجاه الأطفال وتعليمهم، لكنها كحال الفصائل المسلحة مشتتة لا تجمعها هيئة ولا مجلس، بل هيئات ومنصات ومجالس؛ فكيف تجتمع على مشروع للأطفال يحفظ هويتهم وتعليمهم؟!

وليس هذا بحالٍ لبراءة الأهالي عن المسؤولية؛ فالطفل ابن أسرته قبل أن يكون ابن مدرسته ومجتمعه، والأخطاء التي يرتكبها الأهالي فيذهب ضحيتها الأطفال لا تنحصر في تزويج الفتيات مبكراً وحرمانهنّ التعليم، ولا في دفع الأطفال نحو سوق العمل بعيداً عن الدراسة والتعليم، ولا في المشاكل الزوجية التي يكون الأطفال أولَ مَن يدفع ضريبتَها عند انفراط عقد الأسرة أو احتدام المشاكل فيها؛ لنصل إلى التوجيه القسري للطلاب في اتجاه يريده الأهل من الدراسة، دون مراعاة رغبات الأبناء والبنات!

وليس لأحدٍ أن يتوارَى خلف أعذار الحرب والتشتت والحاجة؛ فما قد يتحقق في التعليم من فرص أكبر بكثير مما يكون في سواه، دون قرع الطبول لحالات لا يُقاس عليها لو راجعتَ أصحابها بعد النجاح لَمَا أزرَوا على العلم وتحصيله كما يروّج بعض دعاة الفشل!! بل إن المجتمع - وهو تجمّع كيانات أُسرية مختلفة - تتضاعف مسؤوليته عن تعليم الأطفال في زمن الأزمات؛ لأن التعليم يبقى القناة الوحيدة التي يُرى منها النور في ظلمات القتل والسجن والتدمير والتهجير.

وليس المقامُ مقامَ سردِ نماذجَ من نجاح أطفال مشردين لاجئين كانوا بتعلّمهم طوق النجاة لأهليهم من مآسيهم؛ بل من نجاح أطفال حققوا وهم بين شجر الزيتون في العراء أعلى النتائج في الشهادة الثانوية!

لا بد للمجتمع أن يرفع من قيمة التعليم في عيون الأطفال؛ فهم يرَون ما يوجَّهون نحوَه أولاً، وبعد ذلك يقدرون على مطالبة أهليهم والمنظمات والدول بحقّهم في التعليم، لذا لا يمكن أحداً البراءة من مسؤولية حرمان 2.15 مليون طفل سوري التعليمَ وفق ما أعلنته الأمم المتحدة، وليس أقل من ذلك في اليمن وغيرها من مناحر الطفولة في الأرض، فعلى كل قادر أن يقوم بما يقدر عليه، إنْ بالنفس أو بالمال أو بالتوجيه والإرشاد أو بالترويج والتسويق، فمعركة الإنسان في التعليم تحتاج ذلك كلَّه!

FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.