خواطر خالد الإسلامبولي في انتظار الإعدام (1/3)

خواطر خالد الإسلامبولي في انتظار الإعدام (1/3)

15 أكتوبر 2019
+ الخط -
ما الذي كان يشغل خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات، وهو يجلس في زنزانته منتظراً تنفيذ حكم الإعدام؟

حين بدأت في تصفح المفكرة التي ظل خالد الإسلامبولي يكتب فيها خواطره بشكل يومي، منذ أن سمحت له المحكمة العسكرية بإدخال الكتب والأوراق إلى زنزانته في السجن الحربي، كنت أتوقع أن خالد سيستغل الفرصة لتأمل حياته واستعادة محطاتها وفصولها على الورق، خاصة أنه لم يعد لديه ما يخفيه، بعد أن أجاب بمنتهى الصراحة على كل ما وجه إليه من أسئلة في تحقيقات النيابة العسكرية، وكان قد اتفق قبل بدء التحقيقات مع فريق المحامين الذي تطوع للدفاع عنه، ألا يبنوا دفاعهم أبداً على إنكار الاتهامات الموجهة له، وحين دخل إلى قاعة المحكمة لأول مرة رفع مصحفاً أمام الكاميرات وهتف: "أنا خالد الإسلامبولي، أنا قاتل السادات، أنا قاتل فرعون، أنا قاتل الطاغوت"، لكن ما وجدته في أوراق المفكرة كان مختلفاً عما توقعته أو بمعنى أصح عما تمنيته، لكنه جاء في الوقت نفسه كاشفاً عن عقلية خالد وطريقة تفكيره ورؤيته للعالم.

كنت قد حصلت على أوراق المفكرة في شكل صور التقطها المصور الكبير الفنان حسام دياب، بالاتفاق مع السيدة قدرية علي يوسف البرنس والدة خالد الإسلامبولي، والتي كانت بدورها قد حصلت على المفكرة عن طريق أحد المحامين، واحتفظت بها لسنوات طويلة، ويبدو أنها لم تحظ بفرصة النشر لأسباب رقابية، لذلك ظلت حبيسة الأدراج حتى منحها حسام دياب لإبراهيم عيسى رئيس صحيفة (الدستور) التي كنت أعمل سكرتيرا لتحريرها، والذي أعطاها لي وكلفني بعمل عرض لها لتنشر لأول مرة بعد 15 عاماً من كتابتها، وكان أول ما فعلته بعد أن حصلت على صور المفكرة، أن قارنت صورة الخط الموجود في صور أوراق المفكرة، بخط خالد الموجود في الأوراق التي كتبها، والتي نشرت صور منها في كتاب (محاكمة فرعون) الذي كتبه شوقي خالد محامي عبد الحميد عبد السلام المتهم الثاني في القضية، وكتاب (اغتيال رئيس) الذي كتبه الصحفي البارز عادل حمودة ونشره عام 1985، فوجدت الخط متقارباً، لكن خط خالد في المفكرة لم يكن منمقاً كما يبدو في وصيته التي تركها لأسرته قبل ذهابه لتنفيذ عملية الاغتيال، أو في بعض الأشعار التي كتبها له زميله في السجن أنور عكاشة، وقرر خالد أن يكتبها بخط يده لإعجابه بها، والتي اشتهرت منها القصيدة التي يقول مطلعها:


هذا ابن شوقي خالد يتبخترُ
في ساحة العرض الجميل ويزأرُ

كانت أول إشارة إلى علاقة خالد الإسلامبولي بالكتابة والتدوين المنتظم، قد وردت في كتاب (خريف الغضب) للكاتب الشهير محمد حسنين هيكل، الذي أشار إلى أن خالد كان يحتفظ قبل تنفيذه عملية الاغتيال بدفتر مذكرات يسجل فيه ما يعجبه من أقوال مأثورة، وأنه كتب في ذلك الدفتر يوم 3 سبتمبر قائلاً: "إن الغنيمة الكبرى لأي مؤمن وخلاصه هي أن يقتل أو يُقتل في سبيل الله"، وهو ما أكده عادل حمودة الذي كان قد تمكن من عمل حوار خاطف مع الإسلامبولي في قفص المحاكمة، وتم منعه بسبب ذلك الحوار من حضور بقية جلسات المحاكمة.

قال عادل حمودة إن الإسلامبولي أخذ يعدد فيما كتبه في السجن أسباب قتله للسادات، وأن قريحته تفجرت بالشعر خلال وجوده في السجن، لكنني لم أجد أياً من ذلك في الأوراق التي وقعت بين يدي، مع أنها كانت مؤرخة بالترتيب بدءاً منذ يوم الأحد 14 يناير 1982 الذي سمح فيه بدخول الكتب والأوراق إليه، وحتى يوم 15 إبريل 1982 الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام عليه هو وزميله حسين عباس رميا بالرصاص، لأن زملائهما الثلاثة الباقين عطا طايل وعبد الحميد عبد السلام ومحمد عبد السلام فرج تم إعدامهم شنقاً لأنهم مدنيون، وإذا افترضنا أن حراسة السجن قامت بمصادرة ما كتبه عن أسباب قتله للسادات، فأين ذهبت إذاً الأشعار التي ألفها الإسلامبولي؟ لذلك يمكننا افتراض أن ما تحدث عنه عادل حمودة كان موجوداً في مفكرة أخرى غير التي رأيت صورها، وأن الأوراق الأخرى التي كتبها الإسلامبولي ربما تعرضت للإعدام هي أيضاً، أو أن أهله لا زالوا يحتفظون بها لسبب ما.

بعد أن قرأت كل ما كُتب عن خالد الإسلامبولي، أو لنقل كل ما نُشر عنه، اتضح لي أن المفكرة التي قرأت أوراقها، كانت نواة لكتاب يعده الإسلامبولي وينوي فيه نقل أفكاره وخواطره للأجيال الجديدة، معتمدا على كتب حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي، لكن كتابه هذا لم يجد طريقه إلى النشر، مع أن الأسرة قامت بإطلاع الصحفيين على كثير من أوراقه، وعلى رأسها وصيته التي قال فيها لأسرته: "عليكم بالالتزام بالإسلام والعمل بالتنزيل والخوف من الجليل"، وقد فهمت سر عدم تحمس الأسرة لنشر الكتاب، أو عدم وجود ناشر يتحمس له، حين قرأت الأوراق التي لم تكن تصلح لأن يجمعها كتاب، لضحالة وعادية ما فيها وامتلائه بالأخطاء حتى في نصوص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو ما يتسق مع سيرة خالد الفكرية، التي اعترف بها بنفسه حين قال في تحقيقات النيابة العسكرية إنه كان شاباً عادياً وغير متدين، وأن أخاه الأكبر محمد شوقي الإسلامبولي كان يشير عليه بقراءة كتب ابن تيمية وكتاب الجهاد في سبيل الله لأبي الأعلى المودوي وكتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني، لكنه لم يقم بذلك، وأنه كما قال بنص تعبيره ـ: "اهتديت إلى معتقداتي منذ سنة ونصف تقريباً"، أي أن قراءاته الدينية بدأت في عام 1979 تقريباً.


كان محمد عبد السلام فرج المتهم الخامس في قضية اغتيال السادات وراء التغيير الفكري الذي حدث لخالد الإسلامبولي، وكان قد تعرف على خالد بعد أن أرسله إليه أخوه محمد شوقي ليساعده في الحصول على شقة في حي بولاق الدكرور، لعلها تشجعه على إتمام مشروع الزواج الذي لم يكن قد اتخذ قراره النهائي فيه بعد، منذ أن تخرج من الكلية الحربية في دفعة 77/1978 بدرجة امتياز، وكانت تلك المرة الأولى التي يتفوق فيها في حياته، بعد مشوار دراسي متعثر، وبعد فشله في تحقيق حلمه بالالتحاق بكلية الشرطة، ثم فشله في تحقيق حلمه بالالتحاق بالكلية الجوية، ليتم إلحاقه بسلاح المدفعية بسبب تميزه في الكلية الحربية.

بعد أن حضر خالد الإسلامبولي المولود في نوفمبر 1957 عدة جلسات مع محمد عبد السلام فرج، تعامل معه بوصفه "فقيه.. ربنا فتح عليه ويعتبر عالم.. عرفت أنه عالم من جلساتي معه والاستشارة في الأمور الدينية"، كما قال في تحقيقات النيابة العسكرية. تأثر خالد بكتاب (الفريضة الغائبة) الذي كتبه فرج في صيف 1980، وأغلب الظن أن خالد قرر في غرفة الإعدام أن يحاكي طريقة كتاب محمد عبد السلام فرج، الذي كان تجميعاً لآراء عدد من العلماء والفقهاء في الجهاد، وهو ما فعله خالد في مشروع كتابه، لكنه لم يبدأ بالتركيز على الجهاد وقضية الحاكمية، بل انشغل بقضية اعتبرها الأولى والأهم بالكتابة عنها وهي قضية (تبرج النساء).

في يوم الأحد 14 يناير وخلال استمرار جلسات محاكمته في الانعقاد، بدأ خالد الإسلامبولي في الكتابة في مفكرته تحت عنوان (باب تبرج النساء)، بادئاً بكتابة آية "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى"، ثم أعقب الآية بقوله مفسراً ومعلقاً: "وتبرج الجاهلية الأولى كانت المرأة تترك صدرها مفتوحا وشعرها مكشوفا، فما بال الجاهلية في عصرنا هذه جاهلية القرن العشرين"، مستخدماً التعبير الذي صكه المنظر الإخواني سيد قطب داخل سجنه، وهو المصطلح الذي تبنته كل الحركات الجهادية والتكفيرية من وقتها وحتى الآن.

لم يكتف خالد الإسلامبولي ببدء مفكرته بالكتابة عن تبرج النساء، قبل أن ينتقل إلى مواضيع أخرى أكثر أهمية، بل استمرت قضية التبرج والحجاب لتشغل اهتمامه على مدار ستة أيام كاملة. في يوم 17 يناير يكتب الإسلامبولي مثلاً: "... في العصر التعيس الحديث تجد البنات والنساء في حرج مما فرض عليهن من حجاب وزي، ويقولون رجعية، بل هن الرجعيون، ولكن الله أعمى أبصارهم وقلوبهم"، ـ لعلي بحاجة إلى التأكيد على أن العبارات التي تنشر بين أقواس التنصيص وردت في المفكرة كما كتبها خالد الإسلامبولي بنص أخطائها النحوية والإملائية ـ وبعد ثلاثة أيام يضيف الإسلامبولي لمسة ساخرة على طريقته خلال حديثه عن الموضة التي أرقت باله إلى حد كبير، متهكماً على مصمم الأزياء الشهير كريستيان ديور حين كتب: "ونرى الآن كريستيان ديول ويسمى إله الموضة في فرنسا وله أتباعه في البلاد، إذا قال أمراً ينفذ في الحال يا عبادي قصروا الفساتين، لبيك يا إلهي، سبحان الله عما يصفون".

بعدها بيومين، يواصل خالد الإسلامبولي كتابة كل ما يتصل بموضوع التبرج والحجاب من آيات قرآنية، ثم يعود ليعلق على الموضوع بحرارة وحدة أخرجته عن رصانته ليكتب قائلاً: "لمن تتزين المرأة عند خروجها من البيت وترى المرأة فى البيت لا تهتم بمظهرها أو نظافتها وعند الخروج ياساتر يارب تتجمل وتتعطر وتلبس ما على الحبل سبحان الله قال الرسول لو شم الرجل رائحة عطرية من المرأة فقد زنيت فلمن تتزين إذن هل للناس هل للمجتمع هل للحضارة والمدنية يا للجهل والفتحة من قدام والفتحة من الجنب والفتحة من ورا، أعوذ بالله من غضب الله".

.....

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.