حكايات سورية (3)

حكايات سورية (3)

13 أكتوبر 2019
+ الخط -

قلت، في جلسة الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية الفائتة، إن الثورة السورية تعرضت إلى الكثير من البلاوى، والانتكاسات، وأصبحت أرضُ سورية وسماؤها مستباحتين من (الدول اللي بتسوى - والدول اللي ما بتسواش)، ولم يبق متطرف سني، أو شيعي.. عربي، أو كردي، أو تركماني.. إيراني، أو أفغاني، أو عراقي، أو ليبي، أو سعودي، أو تونسي، أو مصري، أو شيشاني، إلا وترك شغله، وودع عياله، وقال لنفسه حَيَّ على الجهاد في سورية! وأفرادُ هذه التشكيلات الحُثَالية لم يضعوا في حسبانهم أن يعودوا في يوم من الأيام إلى بلادهم، لذلك أكملوا استباحةَ بلادنا بفكرة الاستيطان، ملأوا جيوبهم بالعملات الصعبة، وتزوجوا، وخَلَّفوا، وكل واحد منهم احتل منطقة تتناسب مع طبيعته العرقية، أو الدينية، أو المذهبية، بينما طُردنا نحن المتعالين على هذه الأفكار المجروريّة من بلادنا، وبدأنا نعيش في المنافي ونحاول التأقلم مع هذا الواقع المرير.

قال كمال: مع احترامي إلك ولرأيك يا أخونا أبو المراديس، ممكن نعرف أيش مناسبة هذا الحديث؟   

قلت: مناسبتُه.. بدي قول إن هاي الثورة المغدورة، رغم كل الخسائر البشرية والمادية الكارثية، خلتنا نكسب شي واحد، وهوي (الحرية في التعبير).. وأنا هلق بدي أصرح قدامكم بأنه اللي عم نحكيه هون في جلساتنا، واللي عم إكتبُه أنا وإنقلُه لمدونة "إمتاع ومؤانسة" أحسن وأهم من كل شي أنا كتبتُه لما كنا عايشين في سورية، والسبب هو إني تخلصنا من أنواع الرقابة اللي كانت كاتمة على أنفاسنا، قصدي رقابة اتحاد الكتاب العرب ع الكتب الأدبية، ورقابة القيادة القطرية ع الكتب السياسية، ورقابة المشايخ ع الكتب الدينية، والرقابة الاجتماعية على أفكار الأفراد وتصرفاتهم، ورقابة الزلم ع النسوان والولاد، ومبدأ العيب، ومبدأ الحرام، ومفاهيم الشرف والعِرض اللي ما حدا بيعرف كيف نشأتْ وتشكلتْ وتْمَكَّنِتْ فينا..       

قال أبو الجود: عفواً، ما بدي يزعل مني أبو المراديس، ترى أنا فهمت كل شي قالُه، بس نحن هون عم نحكي حكايات وسوالف وقصص.. وهوي عم يحكي أفكار تبع مثقفين.. بدكم الصراحة؟ أنا انسطلت من اللي سمعته، ويا ريت تاخدوا استراحة، وتجيبوا لنا كاسة شاي نبل ريقنا، وبعدها منكمل حديثنا.

قلت: طول بالك علي أبو الجود، أنا ماني حابب نغير طبيعة السهرات تبعنا ولا بدي نحولها من الحكايات والسوالف للأفكار النظرية، لاكن بما إننا عم نحكي قصص عن سورية، حبيت أعمل التوضيح تبع (حرية التعبير). وبوعدكم إني آخد، بعد هالمداخلة، وضعية المستمع بشكل دائم.

 

قال أبو ابراهيم: طيب. ما دام هيك خلونا نرجع لحديثنا. الأستاذ كمال حكى لنا أمس عن "أبو صطوف الدكة" لما انزعج من إشارة "ممنوع الوقوف" اللي زرعتها البلدية عَ الرصيف، وبكل بساطة قَلَعْها ونَقَلْها لمكان بعيد، ورجع.  

قال كمال: مو بس أخونا "أبو صطوف الدكة" عندُه عقدة من إشارات المرور وشاخصات المرور.. في كتير ناس كان عندهم نفس العقدة. في السابق لما بعض الناس يسافروا لحلب ويرجعوا كانوا يحكوا لنا باندهاشْ عن إشارات المرورْ اللي بتنظم السير في شوارع حلب وكأنهم اكتشفوا بنية الذرة.. بيقولوا: يا أخي هالإشارات بتخلّ العقل! والمسؤولين عنا أصيبوا بنفس هادا المرض.. حتى إنهم في سنة من السنين قرروا يركبوا إشارات مرور في إدلب. نحن حكينا في جلساتنا السابقة عن السيارات في سورية قبل ما ينفتح بابْ الاستيرادْ في سنة 1993، كان عدد السيارات بكل المدن قليل، وأما في إدلب فقليل جداً، يمكن إذا بتقعد ساعة عند تقاطع طرق وبتعدّْ السيارات العابرة ما بيطلعوا عشرين سيارة، هادا في النهار، أما في الليل، فأكيد الرياح بتصفر في معظم الشوارع لأنها خالية من السيارات تماماً. بهالحالة لأيش بتلزم إشارات المرور؟!! ومع هيك في السبعينات رَكَّبُوا إشارات مرور على ستة مفارق في البلدة، وحطوا جَنْبْ كل إشارة دورية شرطة، وفي يوم من الأيام كان رئيس قسم المرور قاعد في المقهى، وواحد من أهل البلد سلم عليه وسأله عن الإشارات، وقال له: 

- حطيتوا في إدلب ست إشارات، يمكن حلب فيها مية إشارة.. 

فابتسم وقال له: مع الأيام راح نصير متل حلب إن شاء الله، وكل الناس بيبدوا من الصفر. 

قال أبو محمد مشاركاً في السخرية: على قولة المتل شعرة ورا شعرة بتساوي لحية. 

قال كمال: وفي يوم من الأيام، كان في فلاح يلقب بـ "أبو عَجُّورة"، هالفلاح معروف عنه إنه من يوم ولدته أمه قبل خمسة وستين سنة ما غادرْ مدينة إدلبْ، ولا بيعرف شي عن إشارات المرور.. وبالصدفة، يوم تركيب الإشارات، كان راكب تركتورُه وراجعْ من الكَرْم، شاف الإشارة. فوقف التركتور على يمين الطريق، ونزل.. بقي واقف لحتى مر ولد عمره شي طنعش سنة، فنادى له وسأله: أشو هدول الأضوية اللي عم تشعل وبتطفي يا عين عمك؟ فقال الولد: هاي إشارات بتنظم السير يا عمي. فقال أبو عجورة: شلون يعني بتنظم السير يا عين عمك؟

الولد لما شاف إنه أبو عجورة غشيم لهالدرجة أحب إنه يأفلم عليه (يعني يعمل فيه فيلم، أو مَقلب)، فقال له: 

- لما بيشعلْ الضو الأخضر بتوقفْ، ولما بيشعلْ الضوْ الأخضرْ بتمشي. ولما بيشوفوا الشرطة إنك ملتزمْ بالنظامْ بيصفّرُوا لك. يعني بيكونوا عم يحيوك. بهالحالة إنته ارفعْ إيدك لفوق وقل لهم: شكراً.

"أبو عَجُّورة" من شدة غباؤُه نفذ تعليمات الولد.. ووقع بمشكلة كبيرة. ممكن نحكي عنها في وقت لاحق.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...