ما الذي حدث لمصعب؟

ما الذي حدث لمصعب؟

02 أكتوبر 2019
+ الخط -


تراجيديا متكاملة الأبعاد يحكي عنها فيلم "الأمير الأخضر The Green Prince"، الذي يروي سيرة حياة مصعب نجل حسن يوسف القيادي البارز في حركة حماس الفلسطينية، والذي فجر مفاجأة مدوية قبل سنوات طويلة، حين كشف عن تعاونه مع أجهزة استخبارات الاحتلال الإسرائيلي، وبرغم أنني شاهدت الفيلم وأنا أوطِّن نفسي على فهم تلك التراجيديا دون إدانة مسبقة، إلا أن مصعب حسن يوسف نفسه لم يساعدني على الفهم طيلة ظهوره في الفيلم، لأنني لم أشعر أنه مهتم بأن يشرح دوافعه وظروفه لمن يشاهده، بقدر اهتمامه بصنع فيلم مثير يعيد إليه الأضواء التي خفتت عنه.

ليس هذا حكماً على نوايا مصعب حسن يوسف بقدر ما هو حكم على المنتج النهائي الذي قدمه في الفيلم الذي يروي قصته، ولذلك أهدر فرصة التواصل مع من يرغبون في فهمه، وقد كنت أحد هؤلاء منذ تابعت قصته عقب الكشف عنها في وسائل الإعلام عام 2010، فأخذت أتساءل هل كان ما دفعه لفعلة شنعاء مثل التجسس على أبيه وأهل وطنه وتعريض حياتهم وحريتهم للخطر، نابعاً من كراهية شديدة يحملها لأبيه الذي ربما كان يخفي خلف وجهه النضالي ضد العدو، وجهاً آخر لأب قاسٍ متسلط عنيف مارس الضغط على ابنه طيلة حياته فأدى بذلك إلى أن ينفجر الإبن ويتحول إلى جاسوس؟، لكن مصعب قدم في فيلمه صورة جميلة لأبيه، يظهر فيها بوصفه أباً حنوناً ورجل أسرة رائع، فضلا ًعن كونه رجلاً منفتحاً ومستعداً للحوار، ليقول مصعب لمشاهدي الفيلم إن ما دفعه لأن يكون جاسوساً لمصلحة إسرائيل هو سخطه على قادة حركة "حماس" في المقام الأول، ورغبته في حماية أبيه من اغتيال إسرائيل له في المقام الثاني خصوصا بعد أن صعد نجمه داخل الحركة وأصبح من أبرز قادتها المطلوبين للقتل.

حاول مصعب كثيراً خلال الفيلم أن تبدو قصته مقنعة، لكن شيئاً ميتاً في عينيه يمنعك طيلة الوقت من التصديق والتعاطف، ويجبرك على أن تشاهد القصة بحيادية تتحول أحياناً إلى سخرية، خاصة عندما يقول مصعب إن سخطه على قادة حركة "حماس" وكراهيته لهم، بدأ عندما رآهم يقومون بتصفية بعض المتهمين بالتجسس لإسرائيل داخل سجن إسرائيلي كان معتقلاً فيه، دون محاكمة عادلة ولا تحقيق منصف، لكنه لم يقل بعد ذلك كيف سمحت له إنسانيته أن يوجه سخطه على قادة "حماس" بالتعاون مع من يقومون بقصف البنايات التي يعيش بها مدنيون مسالمون ليقتلوا الأطفال والشيوخ والنساء دون محاكمة عادلة ولا تحقيق منصف، ولماذا لم يكن رد فعله مثلاً أن يطلب اللجوء السياسي إلى دولة محايدة مثل سويسرا أو دولة تتسم بأرقى درجات النزاهة القضائية مثل السويد، أم أن قدرته على رؤية الجرائم البشعة توقفت فقط عند رؤية جريمة قتل متهمين بالتجسسس دون محاكمة ولا تحقيق؟

فيلم "الأمير الأخضر" أخرجه المخرج الإسرائيلي ناداف شيرمان في تجربته الإخراجية الثالثة، حيث سبقه فيلمان تسجيليان أولهما كان في عام 2007 بعنوان "جاسوس الشمبانيا" عن قصة طفل يكتشف في الثانية عشر من عمره أن أباه عميل سري للموساد، وأنه متجه إلى القاهرة متخفياً في هوية مليونير نازي لاصطياد النازيين الذين هربوا إلى القاهرة، أما فيلمه الثاني "في الغرفة المظلمة"، والذي خرج للنور في العام الماضي، فهو يحكي قصة ابنة وزوجة الإرهابي الأشهر كارلوس وعلاقتهما به ويستطلع وجها آخر لكارلوس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لذلك لم تكن قصة فيلم "الأمير الأخضر" غريبة على اهتماماته وخبرته الفنية، وإن كان حظه هذه المرة أفضل لأنه تعامل مع منتجين في غاية الاحترافية والتميز، هما جون باتسيك وسيمون شين الذين قدما أفلاما تسجيلية مهمة مثل الفيلم الرائع الحاصل على جائزة الأوسكار "البحث عن شوجر مان"، وأفلام "رجل على السلك" و"ذي إيمبوستر" و"المشروع نيم" و"أنا علي".

بدا لي من مشاهدة الفيلم أن مخرجه اتخذ موقفاً من قصة مصعب جعله يقدمها كقصة تشويق وإثارة، وليس كقصة تحتوي على عناصر إنسانية درامية، يمكن لها أن تنتج فيلماً شديد الأهمية في رصد تحولات النفس البشرية، فمنذ البداية حرص ناداف على أن يقدم مصعب باعتباره رجلاً غامضاً قابعاً في الظلام، وحين تضيئ الكاميرا وجهه، نرى أن ملامحه جامدة لا تتسق مع هول ما يحكيه عن طفولته التي اعترف أنها كانت طفولة في غاية التعاسة، ليس لأن أباه كان يسيئ معاملته، بل لأنه تعرض للإغتصاب وهو طفل أثناء لعبه في منطقة خالية مجاورة لبيته، وهو الحادث الذي قام بكتمانه عن أقرب الناس له، لأنه يعيش في بيئة تعتبر التعرض للاغتصاب عاراً أكبر من عار من يقوم به، وهي مأساة حقيقية نعاني منها في أوطاننا، وكان يمكن لو ركز الفيلم على تأثيرها المهول على طفل مثل مصعب، أن نتفهم الكثير من قراراته، لكن الفيلم عبر عليها سريعاً.

قرر الفيلم أن يركز أكثر على أن ما دفع مصعب للتجسس لحساب إسرائيل هو شعوره بالفجيعة من تصرفات قادة "حماس" في المعتقل، لتتحول رغبته في التعاون مع إسرائيل التي أبداها من قبل فقط لكي يرتاح من التعذيب الذي تعرض له على أيدي الإسرائيليين، إلى رغبة صادقة أدهشت الضابط الإسرائيلي جونين بن إيتساك الذي قام بتجنيده والتعامل معه طول فترة تعاونه مع جهاز الشين بيت، بعد أن تم اطلاق اسم الأمير الأخضر عليه، ويحسب للفيلم أنه قدم بشكل فني متميز المراحل التي يقوم بها جهاز الشين بيت في تجنيد عملائه بعد كسرهم نفسياً ومعنوياً، كما استخدم ببراعة تقنيات التصوير المحاكي لتصوير الأقمار الصناعية لتقديم اللقاءات السرية بين مصعب وجونين، التي جاءت مشابهة بشكل ما للقطات التي حكى فيها عن تعرضه للاغتصاب وهو طفل في منطقة منعزلة بعيدة عن بيته.

الفيلم الذي اعتمد على مذكرات مصعب التي نشرت في عام 2010 بعنوان "ابن حماس" عرضه مهرجان ساندانس عام 2014، وحصل فيه على جائزة الجمهور التي حصل عليها أيضاً في مهرجان موسكو، في حين منحته أكاديمية الفيلم الإسرائيلي جائزة أحسن فيلم تسجيلي، يحكي أيضاً قصة تحول العلاقة بين مصعب وجونين من علاقة عمل عدائية إلى علاقة عمل وثيقة ثم إلى علاقة صداقة جعلت جونين يتعامل معه بعدم احترافية أدت إلى اختيار ضابط آخر للتعاون معه، ليبدأ الشرخ في علاقة مصعب بجهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلي "الشين بيت"، ويطلب التوقف عن التعامل مع "الشين بيت"، خاصة بعد أن زاد الضغط العصبي عليه، بعد أن قام بتقديم معلومات أدت إلى اعتقال وقتل عدد من قادة حماس الميدانيين لم يكن أحد يعرف مكانهم غيره، لأنه كان مكلفا بتوفير مخابئ لهم، لينتهي به الأمر مهاجرا إلى الولايات المتحدة عقب خلافات بينه وبين الشين بيت.

لم يفسر الفيلم كيف تخلى جهاز استخبارات عن عميل مهم لديه بهذه السهولة، تماماً كما لم يتوقف الفيلم طويلاً عند مسألة تحول مصعب من الإسلام إلى المسيحية، ربما لإدراكه أنها نقطة حساسة وستثير جدلاً قد لا يخدم استقبال الفيلم لدى الجميع، لكننا رأينا في نهاية الفيلم كيف تعرض مصعب وقت تصوير الفيلم لمشكلة تهدد بقاءه في الولايات المتحدة بسبب كونه ابن قائد جماعة تعتبرها أميركا إرهابية، ولذلك يأتي جونين من قلب إسرائيل ليلعب دور المنقذ له، ويخرج للعلن لكي يشهد في محكمة أميركية أن مصعب ليس إرهابياً، بل هو رجل محب للسلام بدليل أنه تعاون ضد أبيه لمصلحة راعية السلام الأولى في المنطقة، لتشعر في هذه المنطقة من الفيلم بأجواء "تبشيرية"، لطمأنة كل من يفكر في التعاون مع جهاز مخابرات إسرائيلي، أنه لن يعدم ضابطاً جدعاً يقف معه في وقت زنقته.

جونين الذي يظهر في الفيلم بشخصه لا يبدو "مؤدياً" مقنعاً حين يروي كيف أنه ضرب عرض الحائط بتحذيرات قادته في الشين بيت، وأنه أصر على أن يشهد لمصلحة مصعب، لأن أي نظرة هادئة للفيلم تكشف أنه منذ اللحظة الأولى يصب في مصلحة إظهار الشين بيت بوصفه جهازاً خارقاً تمكن ببراعة من اختراق بيت واحد من أعدى أعدائه، وعندما جاءت لحظة الشدة قام بتحذير ضابطه من الوقوف مع مصعب، لكنه لم يقم بإيذائه عندما ضرب بتلك الأوامر عرض الحائط، وهي قصة حتى لو بلعنا أن فريق عمل الفيلم صدقها بكل ما لديهم من حرفة وخبرة، فقد كان ينبغي عليهم احتراماً لتلك الحرفة والخبرة أن يتعبوا أكثر في إقناع الجمهور بها، خاصة أن محاولة تصوير مصعب في جزء من الفيلم بوصفه متمرداً على أوامر الشين بيت، لم تعد مقنعة بعد أن زار مصعب تل أبيب مع عرض الفيلم واحتفت به وسائل الإعلام هناك ليس محبة فيه، بل سعياً لمكايدة حركة "حماس"، التي ظلت لفترة طويلة متبنية رواية أن إسرائيل تقوم بتزييف هذه الحكاية لضرب مصداقية الشيخ حسن يوسف وقيادات الحركة وإثارة بلبلة في الرأي العام المناصر لحماس، وهو ما تخلت عنه حماس بعد إعلان مصعب تنصره، ليضطر والده وأسرته لإصدار بيان يتبرأ منه، وهو ما يتحدث عنه مصعب في الفيلم بحيادية لا تتسق مع ما حاول جاهداً أن يثبته من حرصه على التعامل مع إسرائيل لكي ينقذ والده من الموت، وللأسف تكررت مأساة الشيخ حسن يوسف مع ابن آخر له اسمه صهيب، احتفت به وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل أشهر بعد أن أعلن هروبه من قبضة حماس وانشقاقه عليها، وإن كان الصحفي الإسرائيلي الذي أجرى معه الحوار أنكر كثيراً من الفبركات التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية، وأكد على أن صهيب لم يقم بالإساءة إلى والده ولم يقم بالتعاون مع إسرائيل، بل اكتفى بانتقاد حركة "حماس" وهو حق مشروع له، لكن ما قاله أغضب كثيراً من الفلسطينيين الذين ربطوا بين ما قاله وبين ما فعله أخوه مصعب من قبل، واعتبروا ما حدث حلقة في مسلسل محاولات كسر القيادي الشيخ حسن يوسف فك الله أسره.

لم يظهر لي طيلة مشاهدتي للفيلم أن صناعه يهدفون إلى إقناع المشاهد بمصداقية مصعب أو إلى تبرير أفعاله وتفسيرها، بقدر ما بدوا مهتمين بالحرص على تقديم المفارقة الدرامية المرتبطة بقصته، باعتبار تلك المفارقة عنصرا كافيا لنجاح الفيلم فنياً وتجارياً، وهو ما لم يحدث، فقد جاء نجاح الفيلم باهتا على المستوى التجاري، برغم أنه حظي بمراجعات نقدية احتفت به، وأتصور أن ما جعل صناع الفيلم يتجنبون الاستفاضة في تقديم الخلفية الإنسانية لمصعب، هو أن الفيلم سيضطر حينها للحديث بشكل أعمق عن سؤال أهم هو: ما الذي يجعل أهل مصعب وشعبه يخوضون مثل هذا الصراع مع اسرائيل، على الأقل ليتضح للمشاهد ما إذا كان مصعب بطلاً حقيقياً لأنه قام بتفضيل السلام على الحرب، أو ما إذا كان مجرد ضحية لطفولة معذبة جعلته حائراً مرتبكاً يرتكب أفعالاً غير مقتنع بها ويعيش طيلة الوقت مطارداً بنتائجها، أو ما إذا كان مشروع فيلمهم مجرد رغبة في التجارة بقصة حراقة حافلة بالتوابل الدرامية دون تقديم جميع أبطالها بوصفهم بشرا من لحم ودم؟ وهي اختيارات بحكم ارتباطها بشخص مثل مصعب حسن يوسف ـ أو جوزيف حسن يوسف الآن ـ تبدو كلها صحيحة، وسيكون عليك أن تحسمها بنفسك حين تشاهد الفيلم.

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.