رحلة صعود الشيخ علي وتابعته أمّونة (2 - 2)

رحلة صعود الشيخ علي وتابعته أمّونة (2 - 2)

10 يناير 2019
+ الخط -
لم يعد أحد من أهالي القاهرة يجرؤ على السخرية علناً من الشيخ علي البكري، أو يطلق عليه وصف (المجذوب) الذي كان توصيفه الشائع من قبل، فقد أصبح اسمه الجديد المعتمد بين الناس (الشيخ علي البكري) أو (السيد علي البكري)، ولذلك لم يعد أحد من المارة يستوقفه مازحاً أو متطاولاً، ولم يعد أحد يطيل لسانه أو أصابعه عليه، بل صار الكل يتعامل معه بتوقير وإجلال، فإذا جلس في مكان وقف الجميع مزدحمين للفرجة عليه، مراقبين حركاته وإيماءاته، ومتطلعين إلى أي كلمة تنبس بها شفتاه، لكن الشيخ علي ظل وقوراً وصامتاً طيلة الوقت، ولذلك لم يوفر للمتفرجين عليه قدراً كافياً من التسلية، كالذي منحته لهم تابعته الشيخة، التي يتأخر الجبرتي في إخبارنا باسمها، لكنه يخبرنا أنها عوضت للمتابعين نقص التسلية الذي شعروا به، فقد كانت تصعد على مكان مرتفع وسط الدكاكين، "وتتكلم بفاحش القول ساعة بالعربي ومرة بالتركي، والناس تنصت لها ويقبلون يديها ويتبركون بها وبعضهم يضحك ومنهم من يقول الله الله وبعضهم يقول دستور يا أسيادي".

كان ممكناً أن تستمر جولات الشيخ وتابعته إلى زمن أطول، خاصة أن السلطة لم تتخذ إجراءً ضدها، لأن مشايخها وعلماءها المعتمدين لم يجدوا في الظاهرة ما يستحق التدخل، لكن الحظ العثر قاد الشيخ وتابعته للمرور على عطفة كان يسكن بها جندي عكر المزاج اسمه جعفر كاشف، لم يعجبه منظر الاثنين ولا تجمهر الناس من خلفيهما، فقام بالقبض على الشيخ الصامت وتابعته الصاخبة، وقام بطرد المتجمهرين حولهما، ولم يتعامل الشيخ مع ما جرى له بغضب، بل ظل صامتاً على عكس تابعته والماشين خلفهما من مجاذيب، الذين حاولوا مقاومة ما يجري للشيخ، مما دفع الجندي إلى التعامل معهم بغضب، فقام بضرب المرأة والمجاذيب دون أن يخشى من حلول لعنة السماء عليه، في حين قام بالتعامل مع الشيخ علي بلطف وأحضر له شيئاً ليأكله، ولأن المجاذيب السائرين خلف الشيخ وتابعته، لم يكونوا أصحاب قضية تستحق الدفاع عنها، فقد انهارت عزيمتهم بأسرع مما توقع الجميع، "فاستغاثوا وتابوا ولبسوا ثيابهم وطارت الشربة من رؤوسهم"، على عكس المجذوبة التي لم تستسلم بسهولة، فكان من نصيبها أن تذهب إلى الماريستان، ويتم "ربطها عند المجانين"، في حين قرر الجندي أن يطلق سراح الشيخ علي البكري ليعود إلى تجواله الصامت في شوارع القاهرة بعد أن فقد مجذوبته المخلصة التي كانت تلمّ عليه عبيد الله، والتي لم تنته قصتها بإيداعها الماريستان، بحسب ما يكشفه الجبرتي الذي يقول لقارئه بنبرة تشويقية "واستمرت المرأة محبوسة بالماريستان حتى حدثت الحوادث فخرجت وصارت شيخة على انفرادها ويعتقدها الناس والنساء وجمعت عليها الجمعيات وموالد وأشباه ذلك".

وبعد أن ظل الجبرتي يسرد وقائع سبعة أعوام عجاف، عاش فيها المصريون الأهوال والويلات بسبب أفعال حكامهم وأطماع وجهائهم وخيانات كبرائهم وتخاذل إرادتهم، قرر أن يكشف لقارئه المزيد عن أخبار السيد علي البكري وتابعته المجذوبة التي اتضح أن اسمها أمونة، أو "الشيخة أمونة" كما أصبح الكل يناديها بعد خروجها من الماريستان، حيث انفصل مسارها عن مسار الشيخ علي البكري، ربما لأنه خذلها بصمته وتخليه عنها، لكنها لم تعد في حاجة إليه، بعد أن أصبحت شيخة مستقلة لها أتباعها والمعتقدون بكراماتها. والجديد الذي يكشفه لنا الجبرتي أن الشيخ علي البكري، لم يعد يكتفي بالصمت خلال مشيه عرياناً حافياً في شوارع القاهرة وأسواقها، بل قام بتطوير أدائه وأصبح هو الآخر "يخلط في كلامه وبيده نبوت طويل يصحبه معه غالب أوقاته"، ومع أنه لم يكن حريصاً على الاعتناء بمظهره، لكنه ظل حريصاً على حلق لحيته، ليحافظ على خصوصيته بين مجاذيب القاهرة، ويزداد مع الوقت عدد الناس الذين "لهم فيه اعتقاد عظيم، وينصتون إلى تخليطاته، ويوجهون ألفاظه ويؤولونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقائعهم".


اتخذت الحكاية منعطفاً درامياً جديداً، حين اتضح أن السيد علي البكري لم يكن مقطوعاً من شجرة كما ظن الكثيرون، بل كان له "أخ من مساتير الناس"، لا يقول لنا الجبرتي لماذا تأخر في التدخل من أجل "لَمّ أخيه من الشوارع"، ولا لماذا قرر فجأة أن يقوم بالحجر على أخيه ومنعه من الخروج إلى الشوارع، لكن الحاصل أن قيامه بإجبار أخيه على البقاء في المنزل، بل وإلزامه أن يرتدي ملابس، بدلاً من البقاء عارياً طيلة الوقت، ضاعف من غموض الأخ وتأثيره على عوام الناس، الذين واصلوا "ذكر مكاشفاته وخوارق كراماته"، ليتحول بيت الأخ إلى مزار يقبل الناس عليه من كل ناحية، "وأتوا إليه بالهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد، وازدحم عليه الخلائق وخصوصا النساء".

فجأة وجد الأخ الغاضب بيته وقد تحول إلى مزار يزدحم بالهدايا والعطايا، ووجد أن أمره قد راج و"دنياه قد اتسعت" على حد تعبير الجبرتي المدهش دائماً في تكثيفه للأحداث بعبارات قصيرة، لذلك قرر الأخ أن يتوقف عن محاولة تغيير الكون، مطبقاً شعار "إذا لم تستطع أن تغيرهم انضم إليهم"، واختار أن يستفيد من أخيه الذي لم يكن يجلب له من قبل سوى المشاكل، لذلك "نصبه شبكة لصيده"، ولكي يحدث تأثيراً أوسع لتلك الشبكة، لم يكتف بإجبار أخيه على ارتداء ملابسه طيلة الوقت، بل أجبره على الاهتمام بصحته وعلى التوقف عن حلق لحيته، "فنبتت وعظمت وسمن بدنه وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة وقد كان قبل ذلك عرياناً شقياناً يبيت غالباً لياليه بالجوع، طاوياً من غير أكل بالأزقة في الشتاء والصيف"، ولكي لا يغفل الأخ عن صيدته الجديدة في أي وقت، قرر أن يكلف من يخدم أخاه "ويراعيه في منامه ويقظته وقضاء حاجته".

تغيرت ملامح السيد علي، لكن سلوكياته لم تتغير، فظل مستمراً في الكلام مع نفسه والخلط في ألفاظه، والتنقل بين الضحك والشتيمة بصورة مفاجئة، ليصادف بعض ما ينطق به من ألفاظ "لما في نفس الزائرين وذوي الحاجات فيعدون ذلك كشفاً وإطلاعاً على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم"، وهو ما يتردد الجبرتي في رفضه بشكل كامل قائلاً: "ويحتمل أن يكون كذلك، فإنه من البله المجاذيب المستغرقين في شهود حالهم"، ليبقى السيد علي البكري على ما هو عليه، ويظل في مرحلته الكاسية محتفظاً بمريديه، الذين تضاعف عددهم وارتقى مستواهم عن مريديه في مرحلته العارية، ليستمر إقبال الناس عليه حتى توفي بعد سبعة أعوام من ذيوع أسطورته في شوارع القاهرة، ويجتمع الناس من كل ناحية ليشهدوا وفاته، ويتم دفنه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي، ويتم عمل مقصورة على قبره ومقام بقصد الزيارة، ويجتمع الناس "عند مدفنه في ليال وميعادات وقراء ومنشدين، وتزدحم عنده أصناف الخلائق ويختلط النساء بالرجال"، وهو ما لم يواصل أخوه الاستفادة منه طويلاً، لأنه مات هو أيضاً بعد سنتين.


لكن ذكر السيد علي البكري لم يختف من تاريخ الجبرتي بموته، على عكس رفيقته السابقة أمّونة التي لم يركز الجبرتي على ذكر قصتها رغم كل ما فيها من تفاصيل درامية، فقد عاد الجبرتي إلى استعادة سيرة علي البكري، حين قام بالتأريخ لوقائع سنة 1799، بعد أن قام الفرنسيون باحتلال مصر، ولأن الجبرتي تصور أن قارئه لا بد وأن يكون قد نسي أمر علي البكري بعد كل ما جرى من أهوال وفظائع وصلت إلى احتلال الفرنسيس للبلد، فقد قام بتذكير قارئه بنبذة مختصرة عن علي البكري، وكيف تحول من رجل يمشي بالأسواق مكشوف السوأتين إلى مشروع تجاري لأخيه الذي قرر أن ينتفع من "ميل الناس لأخيه واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر مع أمثاله، "فطفق يرغب الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة حتى صار مثل البوّ العظيم وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شيء وخصوصاً من نساء الأمراء والأكابر".

يصف الجبرتي بخيبة أمل كيف استمرت أسطورة علي البكري بعد رحيله، فظل المقرئون والمداحون والمنشدون يذكرون كراماته في قصائدهم "ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتباه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحي به ويضعونه في أعبابهم وجيوبهم"، وهو ما أثار غيظ الشاعر البدر الحجازي فقال مهاجماً لذلك:

"ليتنا لم نعش إلى أن رأينا كل ذي جنة لدى الناس قطبا
عَلَماً هم به يلوذون بل قد تَخِذوه من دون ذي العرش ربا
إذ نسوا الله قائلين فلانٌ عن جميع الأنام يُفرِّج كَربا
وإذا مات يجعلونه مزاراً وله يهرعون عجماً وعُربا"

لكن الناس لم يلتفتوا إلى تلك الأبيات الغاضبة الركيكة، ليستمروا في ولعهم بالإقبال على مقام الشيخ علي البكري، ولم ينجح شيء في صرفهم عن ذلك إلا بعد أن حضر الفرنساوية إلى مصر، حيث تشاغل الناس من هول ما هم فيه عن مقام السيد علي البكري ومولده، "فتركوه مع المتروكات"، لكن سعادة الجبرتي ومن يشاركه رفض التعلق بأمثال علي البكري لم تستمر طويلاً، فقد قرر الفرنسيون بعد أن أحكموا سيطرتهم على البلاد، أن يسمحوا للمصريين باستئناف التجمع في الموالد، ويرخصوا لهم بذلك بشكل رسمي، وهو أمر لم يعتقد الجبرتي أنه طبيعي أو عادي، بل أرجعه بحس تآمري إلى أن الفرنسيين رأوا أن التجمع في الموالد "فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات"، ولذلك فقد أعادوا هذا المولد من جملة ما أعيد، متناسياً أن الفرنسيين لم يكونوا هم الذين قاموا بتحويل علي البكري من مجذوب عريان السوأتين إلى ولي من أولياء الله الصالحين.

لا يتذكر الجبرتي نظرته التآمرية لما فعله الفرنسيون بمقام علي البكري الذي أمروا بأن يتم إيقاد القناديل حوله وفي الأزقة المؤدية إليه، حين يروي لنا بعد فترة وجيزة من الزمن، كيف رحل نابليون عن مصر وخلفه كليبر الذي قرر أن يستميل إليه المشايخ والعلماء، ليساعدوه على السيطرة على البلد المضطربة، فأخذ يسألهم عن ما يخالف الشرع من ظواهر اجتماعية، لكي يقوم بمنعها، ولأن القاهرة كانت مليئة وقتها بالمزيد من خلفاء علي البكري، الذين ربما لم يعاصروه أو يمشوا خلفه منجذبين إليه وإلى تابعته أمّونة، لكنهم بالتأكيد عرفوا بما كان من أمرهما وكيف تحول كل منهما إلى أسطورة لها أتباع ومريدون ومجاذيب، لذلك امتلأت الأسواق بمشايخ يصفهم الجبرتي بأنهم "يكشفون عوراتهم ويصيحون ويدعون الولاية ويصدقهم الناس".

ولكي يتخذ "ساري عسكر كليبر" سمت الغيور على الدين، قرر أن يسأل المشايخ عن هؤلاء "الذين لا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون، هل هذا جائز عندكم في دينكم أو محرم"، فأجابه المشايخ بأن ذلك حرام ومخالف لديننا وشرعنا، "فشكرهم على ذلك وأمر الحكام بمنعهم والقبض على من يرونه كذلك، فإن كان مجنوناً ربط بالمارستان، أو غير مجنون، فإما أن يرجع عن حالته أو يخرج عن البلد"، ومن يدري ربما اعتبر الكثيرون حين قام سليمان الحلبي بقتل كليبر أن لعنة المجاذيب قد حلت عليه، لكن المؤكد أن أولئك المجاذيب لم يكن لديهم من حسن الحظ ما كان يتمتع به سلفهم علي البكري الذي أفلت من سطوة المحتل الغيور على دين الله، ومن غضب من تحالف معه من المشايخ الراغبين في استقرار الأوضاع، ليظل مقام علي البكري ـ رغم كل ما قيل عبر السنين عن أصله وفصله ـ حاضراً وجاذباً للزوار والمريدين، وهو حظ لم تتمتع به تابعته وصانعة أسطورته أمّونة التي لم يبق من سيرتها سوى سطور قليلة في كتاب الجبرتي، وابتسامة ربما ارتسمت على وجهك، حين يستدعي اسمها صوت شفيق جلال وهو يغني لحبيبته "أمّونة" التي لا ترد على سؤاله المتكرر عن أحوالها، تلك الأغنية التي أصبحت سبباً للبهجة بعد كل ما تعرضت له من تقليد عابث، يثير بهجة الذين يعيشون في بلادنا التي لا تكف عن إبداع مضحكاتها المبكيات.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.