من يوميات أب تحت التمرين: الذكريات

من يوميات أب تحت التمرين: الذكريات

08 يناير 2019
+ الخط -
في مرحلة معينة من تاريخ علاقتك مع أطفالك، ستتحول الذكريات من ملاذ إلى فخ، ولكي لا تقع في ذلك الفخ بسهولة، عليك أن تدرك أن ذكرياتك عن أطفالك لا تخصهم بقدر ما تخصك وحدك، فلا تستغرب إذا لم تثر فيهم نفس مشاعرك العارمة، ولم تؤثر عليهم نفس التأثير الصاخب الذي تحدثه فيك، هذه حقيقة بسيطة للأسف، لكنك ستجد صعوبة بالغة في تقبلها، لأنك أب، والآباء يقاومون الحقائق البسيطة بشراسة أكثر من أطفالهم.

بدأت أتأمل علاقتي بذكرياتي عن سنوات بناتي الأولى، حين وقعت على كنز من الصور والفيديوهات كنت أظنها قد ضاعت إلى الأبد، لكني وجدتها في "لوح محفوظ" قديم، لم أكن بسبب مظهره المزري أعطيه تقديراً يليق به من بين ما أحتفظ به من "هاردات". لم يمض وقت طويل في تصفح الفيديوهات، حتى كنت غارقاً في دموعي، بعد أن شاهدت فيديو لم أكن أتذكره من قبل، تظهر فيه ابنتي الصغرى في شهورها الأولى وهي تحاول الاستسلام للنوم، بينما كنت أقوم بإيقاظها كلما بدأت تروح فيه، في محاولة فاشلة لضبط مواعيد نومها، فتصحو ناظرة نحوي باستعطاف أن أتركها لتنام في هدوء.

كنت أشاهد الفيديو للمرة الثالثة، حين مرت ابنتي إلى جواري في مشوارها المعتاد من غرفتها إلى الحمام، لم يستوقفها بكائي، بل استوقفها صوت بكائها المنبعث من الفيديو، لكنها أجلت السؤال عن ملابسات بكائي إلى ما بعد فك زنقتها، لكنها لم تفهم لماذا أبكي بفعل الحنين وليس تحت تأثير الندم على إقلاقي لراحتها، وحين طلبت منها أن تجلس إلى جواري لنتشارك في تصفح كنز الصور والفيديوهات الذي عثرت عليه، قالت لي إنها لا تحب صورها في سنواتها الأولى، لأن ملامح وجهها كانت تبدو غريبة جداً، وقبل أن أستفيض في التعبير عن انشكاح قلبي كلما شاهد وجهها الجميل منذ ولدت وحتى الآن، شكرتني على كلامي اللطيف، واستأذنتني لكي تعود إلى غرفتها لاستكمال محادثة شديدة الأهمية مع "جروب" من أصدقائها.

قبلها بفترة كنت قد نشرت صورة لابنتي الكبرى وهي في شهورها الأولى، تبدو فيها منشكحة للغاية من وجودها داخل حوض غسيل وقد لطخت وجهها وملابسها ببقايا "قَشط" أنتجته عقب رضعة دسمة، رجتني ابنتي أن أقوم بحذف الصورة من على حسابي، لأنها أحرجتها أمام أصدقائها، وحين قلت لها إني كلما شاهدت هذه الصورة بالذات أبكي من فرط الحنين حين أتذكر تفاصيل ذلك اليوم الجميل الذي كنا فيه مسافرين إلى الإسكندرية، وقبل أن أكمل الحديث عن ملابسات الصورة، ذكّرتني أنها سمعت مني قصة الصورة أكثر من مرة، ولم تفهم في كل مرة ما هو المثير للحنين في صورة تظهر فيها في أبشع حال، متسائلة عن سر إصراري على عدم نشر أي صورة من المائتين وخمسين صورة التي أرسلتها لي في الأيام الماضية، والتي تستحق كلها أن تُنشر بكل فخر وأن تنال أكبر قدر ممكن من اللايكات، بدلاً من الصور التي تحتاج إلى شرح طويل لملابساتها وظروفها.


قلت لنفسي وأنا أواسيها على ما أصابها من كبس وتقطيم بدل المرة مراراً، إن ابنتيّ ستعرفان حين تكبران قيمة مئات الصور والفيديوهات التي أحتفظ بها لسنواتهن الأولى، وأنني كنت مثلهما يوماً ما أنفر من "الكام صورة" التي احتفظت بها والدتي لي من أيام طفولتي البائسة، قبل أن تدور الأيام وأشعر بحنين غريب إلى تلك الصور القليلة، فأتعامل مع كل صورة منها، بوصفها وثيقة بصرية تحتاج كل "بوصة منها إلى التحليل والتأمل، متحسراً على الظروف الفنية والمادية التي منعت والدتي من تصويري كثيراً في سنوات طفولتي الأولى، لعل تلك الصور تساعدني على ملء فجوات هائلة في ذاكرتي باتت تزداد اتساعاً كل يوم للأسف، وهو ما لن يعاني منه مثلنا، أولئك المولودون في زمن الديجيتال، الذين ربما اشتكوا من إفراط أهاليهم في التوثيق لسنواتهم الأولى، بشكل لا يدع لهم فرصة لتخيل ما كانوا عليه بشكل يساعدهم على اختلاق ذكريات تروق لهم أكثر.

أقول لنفسي ربما لو لم أكن أظهر في صور طفولتي القليلة وأنا في قمة التعاسة والغضب من الدنيا، لاقتنعت بما تحكيه لي أمي عن أن سنوات طفولتي الأولى كانت مليئة بالذكريات الجميلة والمبهجة، لكنني نسيتها لأن أغلب الأطفال لا ينجحون في الاحتفاظ بذكريات واضحة لهم قبل سن الخامسة، تحاول أمي التقليل مما أتخيله من إغراق طفولتي في التعاسة، بصورتين أظهر فيهما مع أختي التالية لي، مرة وأنا في الثانية من العمر، وأنا في الرابعة، كنت في الصورتين أنظر إلى المصور بانفعال محايد، كأنني كنت أستغرب ما كان يقوم به، أو كأنني كنت مخضوضاً من طقس التصوير، تشير إلى ملابسنا في الصورة وتقول لي إنها اشترتها بالشيء الفلاني من محلات (الصالون الأخضر) التي كان لها شنة ورنة في تلك الأيام، وأنني كنت فرحاً جداً بملابسي، لكن الصورتين لم تلتقطا فرحتي للأسف لأسباب لا تذكرها، ثم تبدأ في حكاية ذكريات لا أذكر منها شيئاً، وحين قلت لها ذات مرة إن أول ما أتذكره من مشاهد الطفولة هو رقادي على سرير في طرقة بمستشفى، وأنا أشعر بمرارة في حلقي، ويدي مربوطة بشاش أبيض، استغربت لأنني لم أتذكر إلا عملية إزالة "اللِّوز" التي أجريت لي وأنا في الخامسة، لكنها أقسمت أنني لم أتعرض لجرح في يدي يومها، وأن حكاية الشاش الأبيض هذه ربما علقت بذاكرتي، من مشهد رأيته في ذلك اليوم داخل جنبات المستشفى.

حين جربت أن أسأل ابنتيّ عن أول مشهد يتذكرانه من طفولتهما، لم تأت النتائج على هواي، مثلما لم تأتِ ذاكرتي على هوى أمي. كان أول ما تذكرته ابنتي الكبرى بكاؤها وهي في أول سنة حضانة، حين قامت مدرسة بانتقادها لأنها لم تستجب لتعليماتها خلال قيام المدرسة بتدريب الفصل على أغنية بلهاء من أغاني الأطفال، وحين طلبت منها أن تجتهد أكثر في التذكر، قالت لي إنها تتذكر كيف ارتبطت ببطل مسلسل تركي كان اسمه في المسلسل (أسمر) وأنها بكت بغزارة حين مات، وقبل أن أستعوض الله في جيناتي المسئولة عن التذكر التي انتقلت مني إليها، طلبت منها أن تتذكر أول مشهد لي في طفولتها، فلم تأخذ وقتاً طويلاً للتذكر هذه المرة، وقالت لي إنها تتذكر بوضوح كيف كنا سوياً في محل لألعاب الأطفال، وكيف رفضت أن أشتري لها لوح تزلج، لأنني لم أفهم أين ستستخدمه بالضبط في الشقة، وحين رأت ملامحي المصدومة مما قالته، سارعت للقول إنها تتذكر أنني قمت في نفس اليوم بشراء سيارة ضخمة تتحرك بالريموت، وأنها ظلت لفترة طويلة مبهورة بها، وأنها حين تفكر الآن تدرك أنني أب عظيم لأنها كانت يمكن أن تكسر ذراعها لو استخدمت لوح التزلج في ذلك السن المبكر، وأنا لم أظهر لها بالطبع أنني مصدوم لأن أول ما تذكرته لي كان حالة تخييب لآمالها، لاعناً قلق الآباء الزائد عن اللزوم الذي منعني من شراء ذلك اللوح الخشبي اللعين، لا سامح الله من وضعه في صدارة محل الألعاب، ليظل راشقاً إلى الأبد في ذاكرة ابنتي.


كانت محاولة إقناع ابنتي الصغرى بالتقليب في خزانة ذكرياتها أصعب، لأنها تعيش الآن فترة الانشغال الدائم بأي شيء في الدنيا، إلا ذكريات الماضي البلهاء التي أنشغل بها، من كان يصدق أني سأسمع منها إجابة من نوعية "ممكن نأجل الكلام في الموضوع ده للأسبوع الجاي أكون خلصت امتحانات"، ومع ذلك فقد أجلته بدل الأسبوع أسبوعين، وحين قلت لها معاتباً إنني لا أتأخر عليها حين تطلب مني المساعدة في واجباتها الدراسية، لكنها الآن تتأخر علي حين أطلب منها المساعدة في "هوم ووركي"، نشطت ذاكرتها فجأة، وقالت لي إن معاونتي الدراسية لها خلال السنوات الماضية لم تحدث إلا أربع مرات، ذهلت أنها تتذكرها بالتفصيل، وحين لاحظت صدمتي مما قالته، قررت أن تخفف كلامها "الجارح" بالقول إنها لا ترغب في أن تكون متعجلة في التذكر، فتنسى أجمل لحظاتنا معاً، وحين قلت إنني لا أطلب حصراً وافياً بذكرياتنا معاً، بل أبحث عن أول ما يرد إلى ذاكرتها عن سنوات طفولتها الأولى، قالت بعد تفكير قصير إنها تتذكر بكاءها في الحضانة التي لا تذكر من اسمها سوى أنه كان يحتوي على حشرة ما، نحلة أو نملة أو شيء من هذا القبيل، ولأنها لم تفهم لماذا ظللت أستمع إليها مذهولاً من تطابق ما تذكرته مع ما تذكرته أختها الكبرى، فقد اختارت أن تستدعي الذكرى التالية التي كانت سعيدة، حين قالت لي إنها تذكر جيداً أول مرة رأتني فيها ألبس بدلة، وأنني كنت في التلفزيون أستلم جائزة ما على مسرح ما، وأنها استغربت من تغير مظهري في التلفزيون عن مظهري في المنزل، لأكتشف أن أول ذكرى تحتفظ بها ابنتي الصغرى عني هو أنني نادراً ما أرتدي شيئاً عليه القيمة، ومع ذلك فقد حمدت الله لأنها لم تتذكر أول لعبة رفضت شراءها لها، مع أنني أتذكر جيداً تلك اللعبة، فقد كانت أحذية تزلج، مما يعني أن لدي عقدة ما من التزلج لم أكتشف سرها بعد.

كان لكاتب ورسام الأطفال الشهير موريس سينداك عبارة عبقرية تتحدث عن علاقتنا بما نعرفه عن تفاصيل حياتنا، يقول فيها: "لا أستطيع أن أروي قصة حياتي الحقيقية، ربما لأني لم أعد أتذكرها"، وهو ما نكتشف أنه معنى لم يتغير من أيام سينداك الذي عاش طفولته في العشرينات من القرن العشرين، إلى أيامنا ثم أيام أطفالنا، وسيستمر في أيام أطفالهم، لأن إدراكنا لماضينا وتفاصيله ليس محكوماً بما يتوفر لدينا من وسائل تعين الذاكرة على أداء مهمتها، بل يحكمه أكثر الحالة التي نكون فيها حين نستدعي ذكرياتنا، ولذلك أنجح في تذكر أشياء مبهجة عن ما كنت أفعله في المدرسة مع أصدقاء الطفولة القليلين، لكنني لا أحتفظ بذكريات مبهجة كثيرة عن بيتنا في نفس تلك السنوات، وكأنني لم أر في تلك السنين لحظة بهجة، وهو ما لا يعقل أن يكون حقيقياً أو دقيقاً.

ربما ليست المشكلة في ذاكرتي، بل في تصوري لطفولتي الذي يحكم استدعائي للذاكرة، ومن يدري، ربما إذا نجحت في المستقبل أن أكون أكثر تصالحاً مع طفولتي، ستتغير ما تحضره لي الذاكرة من خزائنها عنها، وكذلك سيكون الحال مع بناتي، ربما حين تتخلص كل منهن من ضغوطات الدراسة والدرجات والامتحانات، ستنجحن في استدعاء ذكريات أكثر بهجة عن طفولتهن، كما آمل وأتمنى، لكن حدوث ذلك لن يتوقف على ما آمله وأتمناه، بل على عوامل كثيرة من أهمها ما سأفعله خيراً أو شراً أو مزيجاً من ذلك في علاقتي بهن.

الموضوع ليس سهلاً كما يبدو سعادتك، ربما يبدو لك في البداية لطيفاً خفيفاً، لكنك حين تتعمق فيه ستدرك أنه أغمق بكثير من لونه الخارجي الباهت أو المحايد، وستدرك أيضاً أن تساؤلك عما سيتذكره عنك أبناؤك، لن يكون سؤالاً عابراً تطرحه في ساعة صفا، بل سيظل يشاغلك ويؤرقك حتى لحظاتك الأخيرة، ولأن العملية ليست ناقصة يعني، أن أضيف المزيد إلى قلقك ومخاوفك، دعني أذكرك بحقيقة بسيطة ربما ساعدت في طمأنتك فيما يخص الصورة التي سيتذكرها عنك أبناؤك في نهاية المطاف، وهو أنك إذا كنت حسن الحظ ستكون ميتاً، ولذلك لن تفرق معك ذكرياتهم بشيء، بل ستفرق معك دعواتهم الصالحة، التي ستزداد حرارتها وتتسارع وتيرتها ويطول أمدها، على قدر ما تغمرهم به من حب وحنان وتفاهم وتضامن، صحيح أن تحقق ذلك ليس مضموناً في كل الأحوال، لكن ليس أمامنا إلا أن نحاول، ونترك الباقي على الله.

نعيش ونفتكر.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.