كباب حلبي

كباب حلبي

07 يناير 2019
+ الخط -
نجتمع على الشاطئ كل خميس؛ فأجلس مستمعًا ومستمتعًا بكل جوارحي للصديق الدكتور أحمد الجنابي، الخبير اللغوي بمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، والمهندس خالد الأحمد (أبو البراء)، وعدد من شباب الأدباء والصحافيين والمثقفين والمهتمين باللغة العربية.

هذه السهرة تذكرني بشلة "الحرافيش" ولا سيما أن من بيننا أعضاء دائمين، وآخرين موسميين كما أطلق أديب نوبل على ثروت أباظة ولويس عوض، سهرة تجدد النشاط وتغذي العقل والروح ومعها المعدة!


نتبادل أطراف الحديث ويحلو السمر، لكن رجلًا من بيننا يتفوق علينا جميعًا، ولا ننافسه بأي حال في ميدانه؛ إنه أبو البراء! لا يشق له غبار في تقديم سيمفونية الكباب الحلبي. لا صوت يعلو فوق صوت "أبو البراء"، ولا نملك إلا أن ندين له بالأفضلية، ولو أن عمنا محمود السعدني شهد موقعة الكباب الحلبي؛ لأفرد لها كتابًا على غرار كتابه (وداعًا للطواجن).

هتف بعض الأصدقاء هامسًا: إن هذا الكباب أوقع في النفس من "الميك آب"، وقال آخر: هذا الإغراء وإلا فلا! ووجدتني أطلب من صديقنا أن يدربني على "تتبيلة" الكباب الحلبي، وأن يمنحني إجازة لعلي انتفع بها في قابل أيامي، ووجدتني أسائِل نفسي السؤال الوجودي: هل حقًا الطريق إلى قلب الرجل معدته؟! فتجيبني بصورة مقتضبة وغامضة: أهذا وقت الأسئلة! فلا أملك إلا تأجيل السؤال والتهام ما يتحفنا به أبو البراء. لكنني أعاود السؤال ذاته، ولا حياة لمن تنادي؛ فلا أجد إجابة تحسم الخلاف، ومع أن السعدني يقطع بصدق العلاقة الطردية بين المعدة وقلب الرجل، والحركات النسوية ترى أن الطريق لقلب الرجل هو عقل المرأة، لم أقحم نفسي في هذا الجدال الممتد.


لكن المدهش في الأمر أن عمنا السعدني في "وداعًا للطواجن" أخذنا في رحلته الماتعة، وطاف بنا مشارق الأرض ومغاربها، وساق قصة تؤكد ارتباط الطواجن بالحراك الشعبي والتأثير السياسي!

فقلت لنفسي: المسألة ليست مجرد دعابة، ولا بد من تأثير سحري للطعام على قلب الرجل وعقله، ولربما يهمل الشخص رشاقته إن ارتبطت بنظام غذائي صارم، وليس ذلك إلا حبًا في تناول الطعام. في الشتاء مثلًا، قد يشعر المرء بالملل ولا يجد ما يفعله؛ فتسوقه قدماه تلقائيًا إلى المطبخ، وربما يتناول وجبة العشاء ثلاث أو أربع مرات! إذن الطعام ليس الطريق إلى قلب الرجل؛ فهو يأكل لتزجية الفراغ، أو يتخذه ذريعة لمفاكهة الأصدقاء والمقربين، ويأكل عندما يشعر بالغضب، ويأكل في كل وقت!


أحيانًا يأكل الرجل للتخلص من مأزق، ويرفع شعار "أكلة تفوت ولا حد يموت"، لكن هذا الشعار قد ينزلق به في مهاوي الإحراج؛ فينقلب السحر على الساحر في غمضة عين. ولأثبت لك أن هذه المعضلة ليست بالجديدة، سأنقلك إلى دار السلام (بغداد)، وتحديدًا بلاط الخليفة العباسي الثالث محمد المهدي، وفي مجلس المهدي لفيف من كبار حاشية الخليفة، وجاء دور القاضي شُريك في الحديث إلى المهدي.

أراد الخليفة أن يستميل القاضي لكنه لم يفلح؛ فخطرت له فكرة لا تخطئ هدفها، وبنبرة هادئة قال لشُريك: لا بد أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث! قال شريك: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: إمَّا أن تلي القضاء، أو أن تحدِّث ولدي وتعلمهم، أو تأكل عندي أكلة؛ ففكر شريك قليلًا ثم قال: الأكلة أخفهن على نفسي.

توهم شريك أن الأكلة تنقذه من ورطة القضاء، لكنه سقط في فخٍ مؤكد النتيجة، وأكل شُريك "ووقعت الفاس في الراس"! يقول الفضل بن الربيع: فحدثهم والله شريك بعد ذلك، وعلم أولادهم، وولي القضاء لهم.

دلالات