تولستوي يقصف جبهة شكسبير!

تولستوي يقصف جبهة شكسبير!

07 يناير 2019
+ الخط -
حين يبلغ الكاتب قدراً من الشهرة والشعبية كالذي ناله الكاتب الأشهر ويليام شكسبير، لا تكون مهمة الهجوم عليه أو انتقاده سهلة أو مأمونة العواقب، خصوصاً إذا لم يقم من يهاجمه باختيار عبارات حذرة متحفظة، فقرر أن يصفه مثلاً بأنه كاتب محدود الموهبة أو بأنه عبقري مزيف لا يستحق كل ما يناله من تكريم وحفاوة، عندها ستنصب عليه اللعنات والاتهامات بالجهل وانعدام التمييز، وحينها سيجد نفسه مضطراً للاحتماء برأي كاتب يملك شهرة من ذلك النوع الذي يجبر الآخرين على احترام صاحبها، حتى لو لم يكونوا قد قرأوا له شيئاً، ألا وهو الأديب الروسي العظيم ليو تولستوي، الذي شن من قبل هجوماً شرساً على شكسبير، قال فيه إنه عندما قرأ أعمال شكسبير مرة تلو أخرى بالإنكليزية والروسية والألمانية، شعر في كل مرة بمشاعر النفور والإعياء والتعجب نفسها ودون تفاوت، لدرجة أنه حين بلغ الخامسة والسبعين من العمر، كتب قائلاً إنه قرر إعادة قراءة جميع أعمال شكسبير ليختبر مشاعره منها بعد تطور ذائقته كقارئ وككاتب، فشعر بقوة أكبر بنفس مشاعره السابقة، وهو ما جعله يقرر بقلب مطمئن أن شكسبير عبقري زائف، بل إنه ليس مؤلفاً متوسطاً حتى، "وأن ما منحه الناس له من مميزات غير موجودة فيه لهو شر عظيم".

ولكي يبرر تولستوي هجومه العاصف على شكبير، لم يقرر صب هجومه على عمل من أقل أعمال شكسبير شهرة ونجاحاً، لكي يكون لذلك الهجوم أثر عند قارئه، بل اختار مسرحية (الملك لير) وهي واحدة من أشهر أعمال شكسبير وأكثرها نجاحاً على خشبات المسارح بكل لغات العالم، وأكثرها اقتباساً في أعمال تلفزيونية وسينمائية بل وروائية، ومع ذلك كتب تولستوي قائلاً إنه حين تأمل حبكتها وجدها في جميع صفحاتها "غبية ومطنبة وغير مفهومة ومنمقة وسوقية ومملة ومليئة بالأحداث الخيالية، هذيانات متوحشة، ونكت قليلة المرح ومفارقات تاريخية وبذاءات وتقاليد بالية وأخطاء أخرى أخلاقية وجمالية وأنها على كل حال انتحال لمسرحية أبكر وأكثر جودة هي الملك لير لمؤلف مجهول قام شكسبير بسرقتها ثم إفسادها".

ولكي لا يقصر حكمه على (الملك لير) وحدها، حرص تولستوي في المقال الذي تم نشره عام 1903 كمقدمة لكتيب بعنوان (شكسبير والطبقات العاملة) من تأليف أرنست كروسبي، على التأكيد على أن شكسبير بشكل عام ليس لديه القدرة على ترسيم الشخصية أو خلق أحداث تنبع بشكل تلقائي من المواقف، وأنه يستخدم لغة مضخمة وسخيفة، ويزج أفكاره العشوائية الخاصة في فم أي شخصية متوفرة بشكل مستمر، ويبدي غياباً كلياً لأي إحساس جمالي، ومفرداته لا تشترك بشيء بتاتاً مع الفن والشعر، وآراؤه ليست أصيلة أو مثيرة للاهتمام، ثم يختم كل هذا السيل من الاتهامات بمقولة شديدة الانفعال هي: "قد يكون شكسبير أي شيء تريد لكنه ليس فنانا".

لفت هجوم تولستوي على شكسبير انتباه كاتب كبير وموهوب وشهير أيضاً هو الكاتب البريطاني جورج أورويل الذي كتب مقالاً عن ذلك الهجوم، نشرته مجلة بولميك البريطانية في مارس 1947، قام فيه بعرض رأي تولستوي، الذي وصفه بأنه رأي كاتب ليس لديه صبر مع كاتب فوضوي ومكثر من التفاصيل واستطرادي كشكسبير، وهو في ذلك يشبه رد فعل شيخ نزق أزعجه طفل كثير الصراخ، فأخذ ينهره غاضباً: "لماذا تقفز إلى الأعلى والأسفل هكذا؟ لماذا لا تجلس ساكنا كما أفعل؟" وقد يكون الشيخ مصيباً في غضبه، كما يقول أورويل، لكنه ينسى أن الطفل الذي ينتقده، لديه شعور في أطرافه لم يعد الشيخ يشعر به، وإن علم الشيخ بوجود ذلك الشعور فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة غضبه لا أكثر، وسيتهم الطفل بالخرف لو استطاع.  

يرى أورويل أن تولستوي ربما لا يعلم ماذا يفتقد تحديداً في شكسبير، لكنه يدرك أنه يفتقد شيئاً فيه، وهو متأكد أن الآخرين سيشاركونه ذلك الرأي، وما يجعل تولستوي متأكداً من رأيه إلى حد التعبير عنه بهذه الألفاظ القاسية هو أنه كان بطبيعته متعجلاً ومغروراً، بدليل أنه كما روي عنه، كان بعد تقدمه في العمر يضرب خدمه في لحظات الغضب، وكما يقول كاتب سيرته الإنكليزي ديريك ليون، فقد كان تولستوي يشعر برغبة متكررة في صفع وجوه من يختلف معهم في أصغر تحدٍ يواجهونه به، ويرى أورويل أن ما يجعل تولستوي لا يتخلص من طبع كهذا برغم إعلانه أنه اهتدى دينياً، يجعله شخصاً غير مهيأ للتسامح والتواضع، ولذلك فهو يمارس فيما كتبه عن شكسبير ميوله نحو "التنمّر الروحي"، محاولاً سلب الآخرين من متعة لا يشترك فيها معهم.

في سعيه للدفاع عن شكسبير، لا يفوت أورويل فرصة الاتكاء على حياة تولستوي الشخصية، ليستنتج منها سر اختيار (الملك لير) بالذات للهجوم على شكسبير، فيقرر أن تولستوي ربما كره هذه المسرحية لأنه رأى فيها نفسه، خاصة أنه تنازل عن كل ثروته في نهاية عمره، ومع ذلك لم يجد السعادة، واندفع تقريباً إلى حافة الجنون، بسبب سلوك من كانوا حوله، وخصوصاً أولئك الذين حاكموه من أجل قيامه بالتنازل عن ثروته. ولذلك يرى أورويل أن تولستوي ربما شن هذا الهجوم الشرس على شكسبير لأن تفكيره وصل به إلى اعتبار كتابات شكسبير كشيء خطر على شخصه، "كلما ازداد استمتاع الناس بشكسبير، قل احتمال استمتاعهم بتولستوي"، ولذلك يجب ألا يسمح تولستوي لأحد بأن يستمتع بشكسبير، صحيح أن تولستوي لن يطالب الشرطة مثلاً بمصادرة كل نسخة من أعمال شكسبير "لكنه سيقوم بعمل قذر بشأن شكسبير إن استطاع، سيحاول دخول عقل كل محب لشكسبير وقتل متعته عبر كل حيلة استطاع التفكير بها، حتى استخدام حجج يناقض بعضها بعضاً أو حتى صادقة بشكل مثير للشك".

يقدم أورويل مرافعة طويلة يدافع فيها عن شكسبير، مؤكداً أنه "لا يوجد حجة بإمكان المرء عبرها المدافعة عن قصيدة، فهي تدافع عن نفسها بالبقاء أو أنه لا يمكن الدفاع عنها"، ومعتبراً أن تحليل تولستوي للملك لير ليس نزيهاً، بل هو "تمرين مطول في التحريف"، وأنه قام بتغيير وتلوين المقاطع التي انتقدها من المسرحية، لكي تبدو حبكتها أكثر تعقيداً وأقل احتمالاً، ولغتها كأنها أكثر مبالغة، وهو ما يجعل من الصعب الشعور أن انتقادات تولستوي جاءت بحسن نية.

ومع أن أورويل في نهاية مقاله يعتقد أن "شكسبير مثل كل كاتب آخر ربما يُنسى عاجلاً أم آجلاً"، لكنه يتساءل عن نتيجة هجوم تولستوي على أورويل بعد أربعين سنة من حدوثه، ويجيب بأن "شكسبير ما يزال موجوداً غير متأثر، ومن محاولة إزالته، لا شيء يبقى عدا صفحات غادية نحو الإصفرار لكتيب بالكاد قرأه أحد، والذي كان قد نسي لو أن تولستوي لم يكن مؤلف الحرب والسلام وآنا كارنينا".

يحسب لجورج أورويل برغم كل ما وجهه من ضربات تحت حزام تولستوي، أنه لم يصل إلى حد التشكيك في موهبة تولستوي وقيمته الأدبية وأكد على كونه الشخصية الأدبية الأبرز في عصره، ولا أظنه كان سينجح في إقناع قرائه بعكس ذلك لو حاول، لأن أي قارئ حصيف كان قد تعلم بالضرورة من وقائع سابقة ولاحقة، أنه ليس من الحكمة أبداً أن تأخذ رأي كاتب في كاتب، وأن عليك أن تبني كراهيتك للكتاب بجهودك الذاتية النابعة من معاناتك مع كتبهم التي أضعت بعض عمرك في وقتها دون فائدة أو متعة، وهو ما لم يحدث في حالتي مع كل من أورويل وتولستوي وشكسبير، فماذا عنك؟

...

ـ لماذا أكتب ـ جورج أورويل ـ ترجمة علي مدن ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.