الأديب البحبحاني

الأديب البحبحاني

31 يناير 2019
+ الخط -

قبل أيام، التقيت صديقي فؤاد الفارس في أمسية ثقافية، وفجأة همس الرجل في أذني: هل تصدق ما يقول المتحدث؟! يعلم فؤاد أن المتحدث بالغ ولم أجد ردًا مناسبًا فاكتفيت بربع ابتسامة، وانتهت الأمسية وأنا في حيرة مما سمعت.

زيَّن الغرور لبعضهم أنه أول من أدخل الفانتازيا للعالم العربي، ولم أفهم ماذا يقصد بتلك الفانتازيا، وأين موقع مسرحية توفيق الحكيم "مصير صرصار" و"رادوبيس" نجيب محفوظ من فانتازيا صاحبنا؟ إن كنا لم نعرف الفانتازيا إلا مع نشأة هذا الأديب الفذ؟!

وحملتني الذكريات إلى شارع رمسيس، في ساعة عصاري، وسيول من الكتب تحتضن الرصيف من مسجد الفتح إلى دار القضاء العالي، ومعها يسافر طرفي بين التراث والمعاصرة، وإذا بي أقف لا أدري لماذا مع "أديب الشباب"! لم يكن لقبًا أطلقه النقاد أو القراء على الكاتب، لكنه تطوع وخلع على نفسه هذه المنقبة، وقرأت لأديب الشباب كتاب "هذا قرآني".


كنت أتوسم في أديب الشباب أن يأخذ بأيديهم إلى الرشد، وأن يعالج ضعفًا أو يداوي جرحًا، وإذا به يكيل اللوم والتأنيب للفنانة منى عبد الغني، ويلومها على فسخ خطوبتهما، ولم يذكر الرابط بين الفنانة وقرآنه الذي ارتضاه لنفسه، ثم يدور بنا في دوامة لا أول لها ولا آخر حتى يصل إلى مقام النبوة.

لم يدر بخلدي أن عاقلًا يكتب يومًا: (ولو أرسلني الله تعالى ما أخطأت أخطاء الأنبياء)، ولم أفهم ماذا يريد بأخطاء الأنبياء، ووجدت الرجل يتخبط بين السطور، ثم ينادي العقاد وطه حسين وزكي نجيب محمود في قبورهم ليبارزوه! ويرعد ويزمجر ويتحدى، وقالوا قديمًا: إذا خلا الجبان بأرضٍ طلب النزالا وحده والقتالا!

أنفق أديب الشباب وقته ليكتب لقبه بالفحم و(بالطبشور على الحيطان)، وعلى لافتات داخل ملاعب كرة القدم، ويطبع منشورات تحمل اللقب نفسه يلصقها على أعمدة الإنارة والأسوار والحوائط! أغلب الظن أن الرجل لو امتلك موهبة؛ لضن بوقته أن يريقه في هذه الأفعال الصبيانية، ولصبَّ تركيزه في أعمال تخلد ذكراه؛ فإن بلزاك وموليير، وتولستوي ودوستويفسكي، وآن رادكليف ووالتر سكوت وديكنز وغيرهم، لم يخلدهم التاريخ لأنهم كتبوا أسماءهم على الحوائط أو خلعوا على أنفسهم ألقابًا رخيصة.

وكما أن لكل دهر دولة ورجالاً؛ فإن مجنوني الألقاب يحجزون مقاعدهم في كل زمان ومكان، وإليك خبر أحدهم واسمه شميم الحلي. التقى ياقوت الحموي بالرجل في أمسية ثقافية، ورأى منه صلفًا لا نظير له. اعتاد ياقوت أن يسأل من يلقاه عن مؤلفاته؛ فاستخف شميم بالسؤال وقال: "إن تصانيفي في الأدب كثيرة، وذلك أن الأوائل جمعوا تصانيف غيرهم ورتبوها، أما أنا فكل ما عندي من نتاج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتابٍ عارضته؛ فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته، وأنا جمعت حماسةً من شعري وحدي". وطفق شميم يسب أبا تمام ويشنع عليه، ثم واصل قائلًا: "ورأيت الناس يجمعون على فضل أبي نواس في الخمريات؛ فصنعت خمريات لو رآها أبو نواس لاستحيا!" ثم تلا شعرًا ركيكًا؛ فقال ياقوت: أحسنت! فصاح فيه ساخطًا: ما عندك غير الاستحسان؟! فقال ياقوت: فماذا أصنع؟ قال شميم: تقوم وترقص، لقد ابتليتُ ببهائم لا يفرقون بين الدرّ والبعر!".

فوضى الألقاب شر مستطير، وولع يستولي على البعض دون أحقية، ثوب فضفاض وبلاء عوفي منه أصحاء العقول؛ فلم تسمع عن يوسف الصديق أنه قال: "أنا وزير التموين وخزائن الأرض"، إنما بلغنا أنه قال "أنا يوسف" تواضع ورجاحة عقل؛ فالله الله في استعمال الألقاب.