يا أستاذ حجازي ما الذي حدث لك؟ (2-2)

يا أستاذ حجازي ما الذي حدث لك؟ (2-2)

31 يناير 2019
+ الخط -
بدأت بالأمس نشر نص الحوار الذي أجريته مع الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي عام 1998 بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، واليوم أكمل نشر نص الحوار، ثم أعلق عليه..



ـ بعد رحلة أحمد عبد المعطي حجازي الطويلة مع الشعر والكتابة، نلاحظ أنك تغيرت من الشاعر المتمرد صاحب (مدينة بلا قلب) و(يا قاهرة يا عاهرة)، إلى الشاعر المتسق مع كثير من الأوضاع السائدة، ما الذي غيّرك، هل تعب السنين أم الحكمة أم خيبة الأمل؟
(بعد صمت) تقدم العمر أولاً وزيادة الخبرة طبعاً، حكمك على الأشياء يستفيد من هذا فتصبح أقرب إلى العدل وعمل التوازن، وأصبحتَ تعرف أن الحقيقة نسبية وأن هناك أكثر من حقيقة، كذلك تقدم السن يضعف قوى في كيان الإنسان ويقوي كيانات أخرى، يضعف القوى المتمردة ويكبحها، لكنه يزيد قوى الحكمة والعقل، حتى القوى الجسدية، لا أستطيع مثلاً أن أقضي في معتقل ليلة كتلك التي قضيتها في المعتقل وأنا عندي 30 سنة، لا أستطيع إطلاقاً، أنا الآن اقل تحملاً، في الماضي خرجت من دائرة قريتي إلى دائرة مدينتي الصغيرة التي تعلمت فيها إلى العاصمة التي عملت فيها، هذه كانت مرحلة التمرد، مصر كلها كانت هكذا، ثم انحنى القوس بهزيمة 67.

ـ ولذلك انحنيت معه؟
طبعاً، لأنك لا تستطيع وقد راهنت على النصر، أن تظل تراهن على النصر لوحدك وقد وقعت البلاد كلها في الهزيمة، لقد صنعت لنفسي قوساً آخر عندما سافرت إلى فرنسا من عام 74 حتى عام 90، 17 سنة تجددت فيها، أكملت دراستي العليا وأتقنت الفرنسية وفهمت عن طريق المعايشة والعلاقات المباشرة معنى الحضارة الحديثة وكيف نهضت أوروبا، هذا أنقذني من الموت، لأن سنة 67 قتلت الكثيرين.

ـ لم يكن منفى تندم عليه إذن؟
بالعكس، لقد وسّع مدى الرؤية، مع ذلك دعني أسألك بعد أن أجبتك بصراحة، ما هو الأمر الذي ترى أنني وقفت فيه موقفاً أميل فيه إلى الاتساق مع الأوضاع السائدة.

ـ إذن بماذا نصف موقفك المؤيد للاحتفال بالحملة الفرنسية؟
لا، إطلاقاً هذا موقف أدل على التمرد وليس على الاتساق، الرأي العام يستجيب لهؤلاء الذين نددوا بالاحتفال، ولو كنت أطلب المهادنة والاتساق والعيش خالي البال، لتجنبت الخوض في هذا.

ـ أنا أعني اتساق موقفك مع وزير الثقافة؟
لا، حتى لو اتسق، ولو أني أعتقد أن موقفي مختلف عن موقف الوزير، فقد عبرت بصراحة أنه ليس بهذه الطريقة نحتفل بالعلاقات المصرية الفرنسية، مع احترامي لوزير الثقافة الذي أتفق معه في أشياء كثيرة، وأعرفه من مدة طويلة وأقدر دفاعه الدائم عن فكرة التجديد وهو ما يعرضه للهجوم، لكني أنتقد أشياء أخرى علناً، مثلاً فيما يتصل بهذا الموضوع، هذه الاحتفالات لم يتم تقديمها جيداً في مصر، والناس فهمت أنها احتفالات بنابليون بونابرت والغزو العسكري، وهذا أمر مسئول عنه وزارة الثقافة، فهي لم تشرح للناس معنى الاحتفال بالعيد المئوي الثاني للعلاقات المصرية الفرنسية الذي يتفق موعده مع الغزو الفرنسي لمصر، نحن نحتفل باتصالنا بالحضارة الحديثة وليس بالغزو.

ـ نحتفل إذن باتصال مترافق مع الاحتلال؟
حتى لو كان، لأننا قاومنا الاحتلال، الاتصال الثقافي ليس تبريراً للاحتلال، لكن ينبغي أن نميز بين الاحتلال الذي طردناه والجوانب الثقافية التي نقلتنا من العصور الوسطى.

ـ إذن فلنحتفل بالشهداء الذين سقطوا في مقاومة الحملة الفرنسية، حتى لو غضب الفرنسيون؟
طبعاً ومن الذين يعطيهم الحق في أن يغضبوا، كيف يتصور مصريأني سأستأذن الفرنسيين في الاحتفال بعمر مكرم، أنا أحتفي حتى بسليمان الحلبي مع أنه قاتل.

ـ لكننا استسلمنا لما وضعه الفرنسيون في برنامج الاحتفالات؟
لا، نحن أحرار.

ـ أقصد ما حدث بالفعل؟
لا أعرف ما حدث بالفعل، لأنه لم يُعلن، ولم يقل لنا أحد، هل هناك خطة للاحتفال برفاعة الطهطاوي وشامبيلون وإعادة كتابة تاريخ ما حدث بناءاً على ما كتبه الشهود المصريون والفرنسيون من خلال مائدة مستديرة مثلاً.

ـ ما قرأنا عنه بالفعل هو المعرض الذي سيقيمه وزير الثقافة لنفسه في متحف اللوفر؟
هذا ما انتقدته في صحيفة (الأهرام) وقلت الوزير على عيني وراسي، لكن من واجبه العرض لزملائه قبل نفسه، ثم هناك ما هو أهم من اللوحات، يعني أنا أرى أن الثقافة المصرية في معهد العالم العربي في الذيل، مع أن المصريين أنشأوا الثقافة العربية الحديثة وساهموا بالقسط الأكبر فيها، نحن لدينا سفير في منظمة اليونسكو، ما الذي قدمه لنا؟ ما الذي قدمه لنا مركزنا الثقافي في باريس بما يتفق مع عظمة الثقافة المصرية، لا أسأل عن النشاط الروتيني، ولكن عما قدمناه لنشعر الفرنسيين بعظمة ثقافتنا، ليس في الماضي فقط ولكن أيضاً في العصر الحديث.

ـ لكن اسمح لي، أنا أرى تناقضاً بين ما تعلنه عن إيمانك بالليبرالية واتهاماتك العنيفة لمن عارضوك في هذا الموضوع ومصادرتك على آرائهم؟
أنا مؤمن بمنطلقات الليبرالية، وهذه المنطلقات هي التي تميز بين رجل مستنير ورجل معتم، بعد أن تؤمن معي بهذه المنطلقات، لك الحق أن تختلف معي مائة في المائة، مرجعنا هو العقل، وحقنا في التفكير بحرية ونعتقد كما نشاء ونفصل بين نشاطنا الدنيوي الذي يحتمل الخطأ والصواب وبين نشاطنا الديني، إذا لم تتفق معي على هذه الأشياء فمن حقي أن أسمي من لا يتفق معي جهلاء ومشجعين للإرهاب ومتعصبين ومثيرين للفتنة الطائفية وغير مستنيرين، كل هذه التهم صحيحة، ومن يريد خلط الدين بالسياسة يشجع الإرهاب.

ـ إذن ديمقراطيتك بشروط مسبقة، ومعناها أنك لا يمكن أن تتحاور مثلاً مع الإخوان؟
إطلاقاً، أنا لا أحاور جماعة تريد إنشاء حزب ديني في مصر، وأعتقد أنهم متخلفون، وأفضل محاورة نفسي ومن أتفق معه على المنطلقات الأساسية.

ـ إذن ترى أن القوة هي الحل الوحيد في مواجهتهم؟
أنا أرى أن هناك اشياء يجب أن يقررها الدستور، نحن نريد أن نمسك العصا من المنتصف ونلعب على كل الحبال، ونميل لإرضاء المتطرفين على حساب الليبراليين، يحدث هذا في المدارس والصحف وأجهزة الإعلام.

ـ لكن لماذا لا نرى موقفك القوي هذا في مواجهة أنصار التطبيع مع إسرائيل مثلا؟
أنا أعلنت ألف مرة موقفي من قضية التطبيع، وأنا من أوائل من كتب في هذا الأمر، في الوقت الذي كان علي سالم يجد صحفاً تنشر له، ناقشت ما فعله دون تشنج واتهام بالخيانة، وتساءلت ما الذي استفاده من هذه الرحلة؟

ـ أنا أتحدث عن موقفك الآن وقد أصبح هناك أكثر من علي سالم؟
أنا لست مكلفاً بالمطاردة، أنا كتبت في الموضوع أكثر من مرة وخاصة في افتتاحية مجلة (إبداع).

ـ هل منعك أحد من نشر رأيك ذلك في (الأهرام)؟
بالعكس، آرائي تنشر كما هي ولا يتعرض لها أحد.

ـ ربما لذلك لم يعرف البعض أنك لا زلت ضد التطبيع؟
طبعا أنا ضد التطبيع، ولكني أندد بالهجوم الذي يقع على اليهود ويخلط بين اليهودية والصهيونية، وأهاجم الخلط بين التطبيع الذي يمكن اعتباره استسلاما، والتطبيع الذي يمكن اعتباره حواراً، مثلما حدث بين شيخ الأزهر والحاخام الإسرائيلي، أنا أدافع عن حق شيخ الأزهر في استقبال من يشاء حتى لو كان حاخام إسرائيل، ومن اتهموا شيخ الأزهر كان ينقصهم الأدب واللياقة وتجاوزوا.

ـ هل له قداسة تحميه من النقد؟
لا، ليست قداسة، ولكن كيف ننقد، لا نستطيع أن نقول لشيخ الأزهر أنت أخطأت مثلا، نستطيع أن نحاوره ونطلب منه التبرير.

ـ بنفس المنطق أنت إذن تؤيد ما يفعله لطفي الخولي وجماعة كوبنهاجن؟
أنا أرى أن ما يفعله لطفي الخولي وجماعته، لطفي يقدمه بصورة، والآخرون يقدمونه بصورة، ولا نعرف من هم الذين قابلهم لطفي الخولي ولماذا وعلى أي شيء اتفقوا، مثلا البيان الأخير الذي صدر مع جماعة السلام الآن الإسرائيلية أعلن أن القدس عاصمة لفلسطين وقبل بقيام دولة فلسطينية.

ـ أجزاء من القدس وليس القدس؟
هذا إيجابي في رأيي ويجب تدعيم هذا التيار داخل إسرائيل والوقوف إلى جانبه للتأكيد على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، نحن لا نستطيع أن نطالب بأكثر مما يطالب به الفلسطينيون لأنفسهم.

ـ تقصد ما يطالب به ياسر عرفات؟
لا، الشعب الفلسطيني، أنا لا أرى إمكانية لحل آخر الآن، لكن أستطيع رؤية هذا الحل مقدمة لحلول أخرى في المستقبل.

ـ ولماذا نستعجل في التفريط في حقوق الفلسطينيين؟
لكي نبني الثقة. نحن أمام أوضاع مختلفة عن عام 1948، أنا من الذين يقولون إن فلسطين كلها من حق الفلسطينيين وإن الإسرائيليين الموجودين عليها غرباء عنها وأنهم اغتصبوها، ولكن كيف نصل إلى حل؟ أنا رأيي أن الحل هو الاتفاق على دولة فلسطينية مستقلة.

ـ حتى لو كانت دولة منزوعة السيادة؟
مش منزوعة السيادة، لكن ممكن الحديث عن السلاح، شوف، أنا لا أدخل في تفاصيل.

ـ لكن أليس هذا المنطق هو ما عارضت من أجله السادات من قبل؟
أيوه.

ـ إذن ما الذي حدث وما الذي سبّب هذه الردة؟
الذي حدث كثير، والعالم العربي الذي كان موجودا لم يعد موجودا.

ـ أنا أعرف المتغيرات التي حدثت، لكنك شاعر، والشاعر يمثل أحلام الأمة كما قلت، حتى لو كانت الأحلام صعبة التحقق؟
أنا أتحدث عن موقف له علاقة بالعمل اليومي، هناك شيء أقاومه وشيء لا أقاومه ولا أشارك فيه، وشيء أشارك فيه، أنا أتحدث عما لا أقاومه، أنا أدعو إلى فلسطين، دولة علمانية للعرب واليهود معا، لكن الوقت الحالي لا يصلح فيه هذا، لأن العرب لم يقدموا مثلا طيبا لإمكانية إنشاء هذه الدولة في لبنان، وكذلك الإرهابيون في مصر، وكذلك من يزعمون لأنفسهم الاعتدال مثل الشيخ مصطفى مشهور، تسألني لماذا لا تتصدى لجماعات السلام، أنا لا أتصدى لأن بعض الأشياء التي تقدمها إن لم تنل رضاي، فهو لا يستفزني للمقاومة، وأستطيع أن أفهمه إذا رأيت اتفاقا على دولة فلسطينية حتى لو حدثت بعض التنازلات.

المجلة السرية
ـ دعنا نعد ثانية إلى الشعر والإبداع، ألا تشعر بالأسف بسبب محدودية انتشار مجلة (إبداع) التي ترأس تحريرها، وهو ما جعل البعض يتندر عليها بأنها مجلة سرية؟
(غاضباً لأول مرة) هل أنت تعتقد أنها مجلة سرية؟

ـ هل لها تأثير وانتشار إذن؟
أنا أسألك، هل هي مجلة سرية؟

ـ اعتبر هذا اتهاماً من أحد الجالسين على مقهى وواجهه؟
لا، ما يقال على المقاهي لا يًعتمد عليه.

ـ إذن أنت تعتقد بتأثيرها وانتشارها؟
أنا أعتقد أنها أحسن مجلة تصدر في مصر الآن، لأننا حتى الآن نحافظ على نسبة معقولة من التوزيع، آخر عدد توزيعه كان 80 في المائة من الكمية المطبوعة.

ـ كم الكمية المطبوعة؟
الكمية تختلف من وقت لآخر، لأنها تخضع لحسابات الهيئة العامة للكتاب أكثر مما تخضع لنجاح المجلة أو عدم نجاحها، المجلة تعرضت أحياناً لظروف سيئة، لعدم صدورها في موعدها، هذا من ناحية أتحمله أنا وأسرة التحرير، وتتحمله أحياناً المطابع التي تؤجل طبع المجلة، هذا حدث أحياناً، وفي أحيان أخرى نكون نحن المسئولين، لكنها حتى هذه اللحظة هي المجلة الأدبية التي تقرأ في مصر، وليست مجلة سرية، وأنا أفضل أنه إذا كان هناك مشروع يواجه بعض الصعوبات، فبدلا من التندر رغبة في الإجهاز عليه، ليكون كل شيء سيئا ونرقص على الخرائب، أفضل أن نساعد المشروع القادر على النجاح لكي ينجح، كان من السهل أن أنسحب في موقعي من المجلة، ولكني رفضت لكي لا يحدث ضرر أكبر.

ـ وأنا أستعد لإنهاء الحوار بعد أن انتهى الوقت المسموح لي به، دعني أسألك، أحمد عبد المعطي حجازي صاحب ديوان (كان لي قلب)، بعد كل هذه السنوات كيف ترى تقلبات القلب العاطفية؟
إذا كان مقياس الحيوية العاطفية هو قدرة الإنسان على الحيوية والاندهاش والرفض والقبول والإعجاب بالنساء وتذوق الجمال والنفور الشديد من القبح والجهل فأظن أنه لا بأس بي وبقلبي.

ـ هل تظن أن حيوية نزار قباني العاطفية الأعلى جعلته ينجح أكثر من غيره؟
لا، ما يكتبه الشعراء ليس صورة طبق الأصل من واقع ما يفعلون، شغل نزار قباني أنه يكتب كذا، يعني عبد الحليم حافظ غير قادر على ممارسة الحب بأمر الطبيب، ولكنه يغني للحب، نزار قباني كان يكتب لكي يغذي أسطورة ما ويحتفظ بها، ولذلك لا بد أن يقول بين الحين والآخر أنا هاقرصك في كذا، أنا هاعمل كذا، لكي يحتفظ الناس بالصورة التي أحبوها له، هذه ليست صورتي كشاعر.

ـ بمناسبة الحديث عن نزار، هل ترى أن الشعراء العرب مؤخراً تفوقوا على الشعراء المصريين؟
لا، اللي عندنا زي اللي عندهم، كل ما هنالك أننا أصبنا إصابات فادحة، بمعنى آخر مصر فقدت صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وصلاح جاهين وفؤاد حداد، حتى محمود حسن إسماعيل كان ممكنا أن يعيش أكثر، في حين أن محمود مهدي الجواهري من العراق بقي حتى أشرف على المائة (يضحك)

ـ هل شعرت أن الجائزة التقديرية تأخرت عليك كثيرا؟
لا، إذا قست استحقاقي لها باستحقاق آخرين حصلوا عليها قبلي، لكن طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد نالوا الجائزة وهم أكبر مني سناً.

ـ لماذا لم يحصل عليها أمل دنقل، هل يوجد ما يمنع إعطاءها لأسماء الموتى؟
والله سألت نفسي هذا السؤال، لكن أظن أن الترشيح للأحياء، ولا أظن أنه يمكن ترشيح الراحلين، أنت ترى أن محمود حسن إسماعيل ومحمد مندور لم يحصلا عليها، لويس عوض حصل عليها وهو في فراش الموت وكذلك يوسف إدريس، هناك من حصلوا عليها وهم لا يستحقونها، بل أحيانا أعطيت لمن يسيئون إليها.

ـ مثل من؟
لا أريد أن أفحش في القول ولا أريد أن أؤذي أحداً، لكن هذا حدث.

التعليق
لم تتوقف المعارك والأزمات التي أثارها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي في السنوات التي أعقبت نشر حواري الوحيد معه، والتي كنت أتابعها متعجباً من قدرته في مرات كثيرة على إساءة التعبير عن بعض ما يطرحه من أفكار وجيهة تستحق الجدل والنقاش. كنت قد أعدت زيارته كشاعر بعد أن أعدت قراءة ديوانه القديم الجميل (كان لي قلب) فقادني إلى التعرف على الكثير من شعره الجميل، ولذلك كنت أستغرب كيف تغيب عنه مهارته في التعبير، حين يخوض معركة أو يفجر أزمة، فيعلو أثر الغبار الذي يثيره بشكل يحجب رؤية أفكاره بشكل واضح، حتى على من يرغب في التعرف عليها والحوار معها، كنت حينها أتذكر لحظات الصمت التي كان يجبر نفسه عليها قبل أن يرد على سؤال كنت أستفزه به، فأقول لنفسي: هل كان مضطراً إلى الرد الهادئ الذي يساعده على تنظيم أفكاره إلى حد ما، فقط لأنني كنت ضيفاً في منزله؟ أم لأن ألفة حدثت بيننا بسبب ماحدث قبل اللقاء، أو ربما بسبب قدومي إليه من المجلة التي كانت ملعب صباه ككاتب؟ وهل كان تعبيره عن آرائه فيما يكتبه في بعض مقالاته الصاخبة، سيختلف لو أن لحظة صمته وتأمله قبل الكتابة طالت قليلاً، لتأتي مقالاته محرضة أكثر على التفكير والتأمل؟

كنت قد تغيرت نوعاً ما مع مرور السنين والتجارب، فلم يعد يفزعني تغير الآراء والقناعات، بل أصبحت أقدره وأحترمه، خصوصاً حين يتخذ صيغة المراجعة التي تتأمل الأفكار القديمة وتشرح سياق تبنيها وظروفه، ثم تشرح لماذا لم يعد التمسك بها أمراً صائباً، فيستفيد القارئ مما يقرأه لمن يراجع أفكاره، بدلاً من أن يشاهد عرض "مصارعة أفكار" قد يكون ممتعاً بعض الشيء، لكنه فور انتهائه لا يبقى منه في النفس والعقل أي أثر، ولذلك لم أعد أهتم بقراءة الكثير مما يثيره أحمد عبد المعطي حجازي من أزمات ومعارك، ليس لتشككي في صدق نواياه كما كان يفعل البعض، بل لعدم جدوى تلك المقالات بالنسبة لي كقارئ يشعر أن ما يقرأه ليس سوى "تصدير أزمات وتصفية حسابات مع الماضي"، وأن الصخب الذي نراه فيها ليس مفتعلاً كما يظنه البعض، بل هو نابع من أزمات حقيقية يعيشها الشاعر الكبير، حين يتأمل مشواره مع الكتابة والشعر، ويتشكك في صحة قرارات انفعالية ومواقف حماسية اتخذها في حياته السابقة، وأنه فقد الثقة في الكثير من المبادئ التي دافع عنها في الماضي بشكل يرى أنه حرمه من مميزات كثيرة حظي بها من هم أقل منه موهبة ومهارة.

تأكد لي ذلك الشعور الحزين، حين كنت أرى الشاعر الكبير يهين تاريخه وشعره، وهو يتطوع بمديح سوزان مبارك بشكل مبتذل خلال حضورها لإحدى ندوات معرض الكتاب، وحين كنت أقرأ من حين لآخر مغازلاته المخجلة لنظام مبارك في مقالاته في (الأهرام)، تلك المغازلات التي توّجها بمقال كتبه عبر زيارته الكارثية مع عدد من المثقفين الكبار لمبارك في أكتوبر 2010، تحدث فيه عن انبهاره بصحة الرئيس ولياقته وبديهته، وعن سعادته بأنه رأى مبارك "متفقاً معنا إلى حد كبير حول المبادئ الفكرية والأخلاقية التي يجب أن يكون عليها وجودنا كشعب"، وهو ما تناساه تماماً في المقالات التي كتبها في (الأهرام) بعد خلع مبارك، متحدثاً عن طغيان مبارك وفساده ونهبه لثروات المصريين وإذلاله لهم، ولم تكن تلك آخر تقلبات و"شقلبات" الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، التي لم أعد مشغولاً برصدها والاشتباك معها كما فعلت مرة في أحد المقالات التي نشرتها في صحيفة (القاهرة) عام 2000، فقد أصبحت مع مرور السنين الثقيلة وتعدد التجارب الأليمة، مشغولاً أكثر بسؤال آخر أراه أكثر أهمية: "يا أستاذ حجازي، كيف لا يحدث لنا مثل ما حدث لك ولكثير من أبناء جيلك، وما الذي يجب أن ننتبه إليه طيلة الوقت، لكي لا تقودنا مراجعة مواقفنا وأفكارنا إلى انقلابات محزنة على مبادئنا وقيمنا، فنصبح مثيرين للرثاء والشفقة؟".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.