عقلي وعقلك

عقلي وعقلك

30 يناير 2019
+ الخط -
يخوض المرء عددًا من التحديات في حياته، ويغامر لا يلوي على شيء حتى يتزوج، عندها يتراجع عن المغامرة؛ فقد أصبح رب أسرة ومسؤولًا عن "كوم لحم". يسعى جاهدًا إلى تصدير هذا الفكر لأبنائه، كأنما يسلبهم حق المغامرة رأفة بهم أو اختصارًا لعقبات الطريق.

الأبناء ينظرون للحياة من منظور مغاير؛ فيريد الواحد منهم أن يثبت جدارته، ويعلنها بلسان الحال "لن أعيش في جلباب أبي"، والجزم بصحة أحد الفريقين ليس يسيرًا، ومع ذلك فإن ترك مساحة لحرية الاختيار وتقرير المصير أولى. انظر هناك، هذا رجل قضى حياته في تراب الميري، يعمل كاتب عدل بإحدى محاكم مدينة تور.

تبعد تور عن باريس 208 كم، وقد أنفق الرجل دم قلبه على تعليم ابنه وابنته، وأصر على أن يدرس ابنه الحقوق؛ فتفكير المرء لا يخرج عن نطاق محيطه وتجاربه، ويؤمن أن المحاماة ستؤمن لابنه دخلًا مناسبًا، وأنها الوسيلة الوحيدة ليعيش آمنًا من تقلبات الزمان.


انتظم الابن في الدراسة وكانت لديه خطته الخاصة، وأثناء دراسة الحقوق بدأ يكتب القصص والروايات، وخمَّنت الأم أن ابنها "تِلِف أمله" ومعادش منه رجا! عبثًا حاول الابن أن يقنع أبويه أنه يعرف مستقبله، وأن الكتابة ستشق له طريقًا يفوق مشواره في عالم المحاماة، وحصل الابن على شهادة الحقوق، وعلَّقها في الشقة لتكحِّل أمه عينيها برؤيتها، وأصر على أن يمتهن الكتابة.

لم تزر والدته دولة عربية قط، ولم تقف على فقر الكتاب والأدباء، ولم يصل إلى علمها يومًا ما يُعرف في أدبنا العربي بـ"حرفة الأدب"، ومع ذلك لم تقتنع مطلقًا بأن يترك ابنها المحاماة ويتجه للكتابة. أرادت أن تثنيه عن طريقه؛ فوافقت على مضض أن يسافر إلى باريس، واستأجرت له غرفة ضيقة على سطوح عمارة آيلة للسقوط، وأعطته قدرًا زهيدًا من المال، وكل ذلك ليعود إليها كسيف البال صاغر الخد، وليرجع عن طموحه الذي لا تراه جديرًا بالاحترام.

أمهلته عامين حتى "يرجع عقله في راسه"، ويعود لسلك المحاماة الذي اختاره أبوه، وركب الشاب رأسه ودخل مباراة التحدي؛ فيقتر على نفسه في النفقة ويأكل أقل القليل، وبدلًا من شراء الماء ينزل إلى نافورة سان ميشيل، وقبل على نفسه أن يكتب مقابل المال.

كان يكتب للربح، تمامًا كما تنتج أفلام تجارية لا قصة فيها ولا فكرة، شيء لا يشرِّف صاحبه وإن كان يدر عليه ربحًا معقولًا، وكان يدرك ذلك جيدًا ويتخذها مطية لمرحلة أفضل، وليطيل مدة وجوده في باريس ولا يعود لأمه خالي الوفاض، اتفق مع أحد أصدقائه على أن يكتبا القصص معاً بأسماء مستعارة.

كان حتمًا أن تختبر الأسرة أول إنتاج ابنهم؛ فانتدبوا أديبًا ليبت في الأمر، وليقطع في شأن موهبة ابنهم المزعومة، وجاء نص القاضي "أندريو" بعد أن طالع الرواية: "على مؤلف هذه الرواية المفككة أن يصنع أي شيء ما خلا الأدب"، وزفرت الأم وريقها يتحلب مرارة الهزيمة، وأكالت التقريع لابنها وتأسفت حيال مستقبله المجهول.

وبعد سنوات، تبدلت الأحوال ورددت فرنسا بأسرها اسم صاحبنا، بينما لا نعرف شيئًا عن السيد أندريو، واتسعت شهرة صاحبنا فطافت العالم من شرقه إلى غربه، وبعد أن كان يقتر على نفسه تقتير جوني ديب، أصبح أكثر تبذيرًا من نيكولاس كيدج.

لو أذعن الابن واختار المحاماة، ما ذكرناه اليوم ولا وصل إلينا خبره، وليس ذلك انتقاصًا من مهنة القانون، بل لأن هذا الشاب فتح في عالم الأدب طريقًا لم يسبق إليه، وترك بصماته المؤثرة في القصة والرواية، إنه بلزاك رائد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، وصاحب "أوجيني غراندي"، و"أوهام ضائعة"، وغيرها من الروائع الأدبية.

دلالات