يا أستاذ حجازي ما الذي حدث لك؟ (1-2)

يا أستاذ حجازي ما الذي حدث لك؟ (1-2)

30 يناير 2019
+ الخط -
كان سؤالي الذي طرحته على الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي عما فعلته الأيام بأفكاره ومواقفه مشروعاً، لكني للأمانة، لم أطرحه وقتها بدافع الفهم وحده، بل بدافع المشاغبة أيضاً، أو في الأساس، ولذلك جاءت بعض أسئلتي مفعمة برغبة غير ناضجة في انتزاع أحكام وإدانات فورية، وربما تغلبت علي رغبتي في المشاغبة والمساجلة، لأني لم أكن وقتها من المولعين بشعر حجازي، فقد كنت أحب له قليلاً من القصائد وقليلاً جداً من المقالات، وأختلف معه في مواقف عديدة كان يعلنها في مشاركاته العامة وفي مقالاته التي بدأ كتابتها في صحيفة (الأهرام) بعد عودته من منفاه الاختياري الطويل في باريس، وهو ما اعتبره البعض أبرز تطبيق لسياسة إدخال كبار المثقفين المتمردين في حظيرة الدولة، طبقاً للتعبير الشهير الذي أطلقه وزير الثقافة فاروق حسني، والذي أسند إلى حجازي في الوقت نفسه ولفترة طويلة جداً رئاسة تحرير مجلة (إبداع) الشهرية الصادرة عن وزارة الثقافة.


كنت حين بدأت حواري مع الأستاذ حجازي في ذلك اليوم من أيام صيف 1998 حريصاً وحذراً وأنا أطرح أول أسئلتي عليه، فقد كانت مناسبة الحوار في الأصل الاحتفال بفوزه بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، والتي لم يكن منصف يختلف على جدارته بها، مهما اختلف مع مواقفه، فضلاً عن أنه كان واحداً من مؤسسي ورواد مجلة (صباح الخير) التي استضافني رئيس تحريرها الأستاذ رؤوف توفيق للكتابة فيها بعد إغلاق صحيفة (الدستور)، ولم يكن يليق أن يتحول الحوار الاحتفالي به إلى ساحة معركة، خاصة وقد حذرني بعض زملائي من عصبيته الشديدة، لكني وجدته مختلفاً عن الصورة التي نُقِلت لي عنه، فقد كان ودوداً و لطيفاً مع أني كنت ألتقيه لأول مرة، وتقبل كل أسئلتي المستفزة بهدوء، لم يمنعه من الرد عليها بإجابات صاخبة ومثيرة للجدل كعادته.


حين استغرب أحد زملائي كيف سار الحوار بهدوء على عكس تجربته مع الأستاذ حجازي، قلت له إن الحظ ربما ساعدني لأن بداية اللقاء كانت طريفة، إذ يبدو أن الأستاذ حجازي شاهدني وأنا أدخل إلى عمارته في مصر الجديدة، ولأنني وصلت قبل الموعد بدقائق، فقد قررت أن آخذ راحتي في التقاط أنفاسي اللاهثة أمام بابه بعد عناء صعود الأدوار الخمسة ذات السلالم الطويلة، وحين فتح الأستاذ حجازي الباب ووجدني أحاول شفط أكبر قدر ممكن من الهواء المحيط بي، ضحك ودعاني إلى الدخول، فقلت له إن صعود هذه السلالم كل يوم يحتاج إلى جائزة إضافية من الدولة، وحين دخلت إلى الشقة وجدت الصالة ممتلئة بضيوف متحلقين أمام شاشة التلفزيون التي تذيع مباراة ربع النهائي في كأس العالم والتي جرت بين إيطاليا وفرنسا، وكان بعض هؤلاء يطلقون عبارات غاضبة بالفرنسية تعليقاً على أداء المنتخب الفرنسي، وبسبب استغراق الجميع في متابعة المباراة، لم يلتفت منهم أحد إلينا ونحن نعبر الصالة متجهين إلى مكتب الأستاذ حجازي، والذي كان وقتها يشارك بكامل طاقته في المعارك الصحافية والإعلامية الدائرة حول دعوة وزارة الثقافة للاحتفال بمائتي عام على الحملة الفرنسية، وكان حجازي من أبرز مؤيدي الاحتفال بالحملة، وهو ما جعلني أقرر البدء بمشاغبته قائلاً: "طبعاً مش هاسألك بتشجع مين؟ أكيد فرنسا"، فرد متجاهلاً التلميح: "لا أنا ما ليش في الكورة، وعشان كده اخترت معاد الماتش عشان نعمل فيه الحوار"، لأفهم إجابته بوصفها دعوة للدخول مباشرة في الموضوع، ليعود إلى ضيوفه الذين شاركتهم بعد نهاية الحوار الفرجة على ضربات الجزاء الحاسمة للمباراة، لكنني لم أشاركهم فرحة الفوز على إيطاليا والتي قادت فرنسا نحو الفوز بكأس العالم لأول مرة في تاريخها.

بدأت حديثي مع الأستاذ حجازي بتهنئته بالجائزة، والتأكيد على أن حوارنا لن يحتوي على أسئلة من نوعية (ما هو شعورك بعد الفوز بالجائزة)، بل سيحتوي بالعكس على أسئلة قد يراها غير مناسبة وهو يحتفل بالجائزة، وحين قال لي: اسأل ما شئت، قلت له: هل يجب أن أخشى ما سمعته عن عصبيتك؟، فرد مبتسماً: لا أنا مش عصبي، أنا بآخذ الأمور مأخذ الجد فقط، وهو ما لم يعد يفعله الكثيرون للأسف، وعلى الفور بدأنا الحوار بالحديث عن الواقع الشعري في مصر وقتها، والذي كان حجازي قد كتب مشيداً بثرائه وغناه، وهو ما جعلني أسأله عن مظاهر ذلك الغنى والثراء الشعري وكيف يمكن تبينها في الواقع الثقافي المحيط بنا، فقال رداً على سؤالي وهو يحاول تجميع أفكاره في البدء قبل أن ينطلق في حديثه قائلاً:

الشعر يستجيب دائماً لروح الشباب المليئة بالانفعال والإيقاع، ولذلك الواقع الشعري في مصر غني بمعنى أنه يشهد تجارب ومحاولات كثيرة، هناك أجيال من الشباب في العاصمة والأقاليم يحبون أن يكونوا شعراء ويجربون قول الشعر، والشعر يستجيب لأي موهبة مهما كانت بساطة إمكانياتها، فهو لا يحتاج إلا إلى اللغة، لا يحتاج إلى ما يحتاجه كاتب القصة والرواية من تقنيات وأساليب، ولذلك فن الرواية تأخر ظهوره كثيراً لتعقد ما تتطلبه الرواية، أما الشعر فقد بدأ منذ لحظة كلام الإنسان. طبعاً هناك فرق بين الغنى الموجود حالياً والغنى الموجود في جيلي والأجيال السابقة، التي ظهرت في إطار مناخ ثقافي حي يشعر بالمسؤولية، وكان هناك نقد له حضور وتأثير على القارئ وعلى الشعراء، كان النقد قادراً على تكوين رأي عام ومساعدة القارئ في التذوق ومساعدة الشاعر على التطور، الآن اختلط الحابل بالنابل في كل شيء للأسف الشديد، وخاصة في المؤسسات القريبة من الأدب والثقافة، يعني إذا لم يكن هناك تعليم حقيقي للغة في المدارس، من الطبيعي أن تظهر مواهب فجة غير قادرة على استخدام اللغة، وإذا وصلت هذه الفوضى للجامعة، وهو ما حدث للأسف، فإن الجامعة لن تلعب دوراً حقيقياً يخدم فن الشعر، ولذلك نرى أساتذة جامعات الآن يتكلمون فيما لا يعرفون، وينقلون من هنا وهناك أفكاراً تمثل طبخات رديئة، وتجمع فتات الموائد التي تنشر أو تترجم عن الأجانب، هذا ستجده في كتابات عدد كبير من أساتذة الجامعات، فضلاً عن فضائح السرقات والسطو على المؤلفات. وللأسف المجلات الثقافية والأدبية لا تلعب دورها كما يجب، ها أنت ترى أن آخر عدد من مجلة (فصول) يتم تخصيصه للدعاية لشاعر لا يزيد عن غيره في شيء سوى أنه نجح في تكوين عصابة تهتف بقدراته الخارقة ـ كان يقصد الشاعر السوري أدونيس الذي أصدرت عنه المجلة وقتها عدداً خاصاً ـ للأسف الحياة الثقافية في مصر بشكل عام تشكو من انعدام الإحساس بالمسؤولية. والشباب الذي يريد أن يتعلم من سيعلمه؟ ليس أبوه وليس أهله الذين يفضلون التحلق حول أجهزة التلفزيون لمتابعة رقصة بذيئة أو أغنية رديئة أو مسلسل سخيف، لن يقتني كتباً من مكتبة المدرسة التي كانت من قبل عامرة بالمدرسين المثقفين وبأصحاب الضمائر الذين يعلمون تلاميذهم حب الوطن وتقديس الثقافة العربية التي لم يعد لها وجود الآن، وأجهزة الإعلام التي كانت مليئة بالأصوات الرائعة لمذيعين لا يخطئون في النحو، أنت الآن لا تسمع أصوات اللغة أصلاً، الثاء أصبحت سين والضاد أصبحت دال، هذه ليست لغة، ولو تحدثنا عن النحو فالبلية أعظم.


ـ لكن كواحد ممن يطلق عليهم جيل الرواد ألا تتحمل المسؤولية عما يحدث؟
(منفعلاً للحظة) كيف أتحمل المسؤولية عما يحدث؟

ـ يعني لنقل أنك تتحمل المسؤولية مثلاً من خلال مجلة (إبداع) التي ترأس تحريرها، من خلال انقطاعك عن كتابة الشعر منذ سنوات طويلة؟
طبعاً انقطاعي عن كتابة الشعر مسؤولية، لكن ما يحدث هو مسؤولية آخرين أيضاً، لا أستطيع أن أقول أن الدنيا كلها مسؤولة وأنا غير مسؤول، المسؤولية مشتركة، هناك محاولات ولكنها جزئية، يعني هناك مشروعات ثقافية جميلة مثل مكتبة الأسرة، ولكنها ليست مرتبطة بمشروعات أخرى تواجه الظواهر السلبية بشكل شامل حتى تقضي عليها وتخلق واقعاً جديداً، أنا أحاول أن أقدم في المجلة التي أرأس تحريرها مادة جديدة تمثل مختلف تيارات الشعر الموجودة.

ـ أنت تنشر الموجود إذن وليس الجيد؟
أنشر الجيد في الموجود، لأن الجيد ليس منفصلاً عن الموجود.

ـ يعني أحسن الوِحشين؟
لا، أحسن الموجود، لأن الموجود ليس سيئاً دائماً، كما أكتب في (الأهرام) بصراحة وبشيء من الحدة التي تجعلني أُلام.

ـ من الذي يلومك؟
(بعد صمت) أهوه يعني. عندما يجد الناس أني غاضب دائماً ومكفهر الوجه ولست سعيداً بشيئ، أنا لا أتحدث عن كل الناس، فالكثير يوافقونني فيما أكتبه، لكن البعض يقول هذا السيد لا يعجبه شيئ. عموماً طبعاً أنا مسؤول عما يحدث، على الأقل مسؤولية نظرية لأني عضو مؤثر في المجتمع، ولا أدعي أني لا أملك شيئاً. أنا أملك ولا بد أن أكون مسؤولاً، لكن أريد من يحدد لي مسؤوليتي أنا بالذات.

ـ طيب، عندما ترى أن الساحة الشعرية يتسيدها الكثير من الغثاء، وترى كيف انقطع تواصل الشعر مع الناس، هل هذا ما كنت تتصوره أنت وزملاؤك وأبناء جيلك حين خُضتم معركة مع أنصار الشعر الذي كنتم تطلقون عليه القديم، ألا نستطيع أن نقول أن عباس العقاد كان على حق عندما واجهكم واتهمكم بأنكم خطر على الشعر العربي؟
(بعد صمت) أيوه، أستطيع أن أقول الآن أن العقاد كان على حق في الخوف من المآل الذي سيصل إليه الشعر العربي، إذ أننا تهاوننا في جانب يمكن أن يغري بالتهاون حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن وهو جانب الشكل، العقاد كان على حق في تخوفه، ولكني أنا أيضاً كنت على حق لأني كنت أدافع عن جوهر الشعر، والعقاد كان يدافع عن شكل القصيدة، وله الحق لأنه لا شعر بدون شكل.

ـ لكن الآن لم يبق لا الشكل ولا الجوهر؟
(يهز رأسه بأسف) فعلا، لا الشكل ولا الجوهر، لكن وقتها أنا كنت أرى أن الشكل المتقن الخالي من الجوهر يدفع للصنعة، وكنا نبحث عن قصيدة حيوية تتفق مع روح العصر الذي عشنا فيه، عصر الثورة والتفجر والتجديد، وكنا على حق في ذلك، ما حدث للأسف الشديد أننا لم نحسب حساب أشياء حدثت بعد ذلك، ولم نحافظ على ما كان عندنا وقتها. لكن من الذي كان يمكن أن يخبرني عام 1956، عند صدامي أنا وأبناء جيلي مع الأستاذ العقاد أن المدرسة المصرية ستنهار هذا الإنهيار، وأن مجانية التعليم سيكون ثمنها انعدام التعليم، وأنه من أجل بناء مدارس كثيرة اصبحت المدرسة مجرد حيطان، ليس بها لا شجرة ولا زهرة ولا مكتبة، من كان يدريني أننا سننهزم تلك الهزيمة في 1967 فينقلب المجتمع من الاندفاع في تيار المستقبل إلى الانكفاء على نفسه والعودة إلى الماضي، وهو ما أدى إلى كثير من الظواهر السلفية، من كان يدرينا أن جامعة طه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي ستُكفِّر نجيب محفوظ وتُفرِّق بين نصر أبو زيد وزوجته، كل هذا حدث، هنا يمكن أن أقول نحن فقط على حق وعلى خطأ، وهم أيضاً كانوا على حق وعلى خطأ، العقاد ومن أيدوه من أبناء جيله لم يروا الحاجة إلى التجديد، ونحن لم نر الحاجة إلى الحفاظ على التراث.


(كنت وقت حواري مع الأستاذ حجازي أتبنى موقفاً سلبياً من قصيدة النثر ومن كثير مما كان يطلق عليه الشعر الحديث، وهو موقف حرمني من الاستمتاع بكثير مما كتبه شعراء متميزون لم أكن أتذوق ما يكتبونه، كنت أيضاً أتصور أيضاً أن هناك دوراً يجب أن تلعبه الدولة في دعم اتجاهات ثقافية بعينها يجب أن يتم تفضيلها على اتجاهات ثقافية أخرى، وهو ما جعلني أطرح عليه سؤالي التالي)

ـ لكن يا أستاذ أحمد أنت عضو في المجلس الأعلى للثقافة، الذي يصدر في مطبوعاته دواوين شعرية يمكن وصفها بأكثر الأوصاف تهذيباً أنها تزيد من القطيعة بين الشعر والناس، منذ فترة كتبتُ عن ديوان أصدرته شاعرة شابة تكتب عن الصراصير والبراز وما إلى ذلك بمستوى فني منعدم، وكان من الغريب أن تختار الدولة إصدار هذا الديوان بدلاً من دعم تجارب فنية متميزة لا يجد أصحابها فرصة للنشر، كيف تعلق على هذا؟
شوف، من حق كل شاعر أو شاعرة، أن يقول ويكتب ما يشاء، لكن النشر يجب أن يكون له شروط وتقاليد، ما الذي يستحق أن نخرجه للناس، في الماضي وفي الشعر القديم كان هناك بذاءات ومجانات، من المجون يعني، وسيظل ذلك موجوداً دائماً، لكن الدولة من واجبها أن تحافظ على مستوى الفن، وأن تراعي الذوق العام، لكن لا ينبغي أن تتقيد به خصوصاً إذا كان الذوق العام متغيراً، فلا ينبغي أن تنقلب الدولة على نفسها الآن لترضي الذوق المحافظ، أنصار الشيخ الشعراوي مرة وأنصار الشيخ الغزالي مرة، ثم يتغير هذا، فيأتي عبد الكافي وعبد الباقي، والناس تجري وراء هذه الظواهر حتى أصبحت الحكاية مضحكة، يعني أصبحنا نقرأ تصريحات لراقصة تقول إنها لن ترقص إلا أمام النساء وأمام فرقة موسيقية كلها من النساء، وما أعتقده أن هذا النوع من الرقص مطلوب منه مخاطبة غرائز الرجال، وإلا وقعنا في ما هو ألعن بتبرير الشذوذ بين النساء وتفضيله على إثارة الرجال، هؤلاء السادة عبد الكافي وغيره يذهبون ويجيئون في المجتمع، مستعينين حتى ببعض الراقصات والممثلات، ويجب ألا تخضع الدولة لهذه التقلبات، وعلى الدولة في نفس الوقت أن تشترط فيما تنشره المستوى الفني العالي.

ـ هناك كثيرون ممن يطلقون على أنفسهم أنهم حداثيون، يردون على من يتهمهم بتكريس القطيعة بين الشعر والناس قائلين إن الشعر فن نخبوي وليس للجماهير؟
هؤلاء نصابون، لا يخاطبون أصلا النخبة، إلا إذا كانوا يعتبرون أنفسهم النخبة، وهم في نظري حتى لا يقرأون بعضهم، النخبة؟ من يقول مثل هذا الكلام يجب أن يكون شاعراً مثل رينيه شار لأن من يستطيع تحليل شعره فيلسوف بحجم الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، أما هؤلاء النصابون الذين لا يقرأون شيئاً ولا يقرأ لهم أحد شيئا، وربما قرأ بعضهم بعضا فقط، وهم لا يتوافرون على قراءة الكتب المهمة، يتحدثون عن شعر المتنبي دون أن يقرأوا له ثلاثة أبيات، هم ينفون شاعرية شوقي ويتهمونه بالتقليد، الشعر ليس للنخبة، ماذا نقول إذن عن الفلسفة؟ الشعر فن غنائي، اذهب إلى الموالد والحضرات الصوفية والمحافل الوطنية ولن تجد إلا الشعر، حتى المظاهرات فيها شعر، الشعر فن الجماهير، ولذلك يقال الشاعر روح الأمة، يصح بعد ذلك اشتغال بعض الشعراء بفنون أخرى كالفكر، أبو العلاء المعري مثلا قراءته تحتاج إلى ثقافة، لكن شعره يمكن أن يقرأه الملايين، أما أن يقال عن كلام فارغ لا يُقرأ ولا يُكتب أنه فن للنخبة، أي نخبة تقرأ هذا الكلام الفارغ؟

ـ لكنك بعد أن هاجمت أمثال هؤلاء مع بدء رئاستك لتحرير مجلة (إبداع) وقلت إن مجلة إبداع ستكون للصفوة وليس للحرافيش، تراجعت بعد أن شنوا عليك حملات ضارية، وبدأت في النشر لبعضهم؟
ما الذي كنت أقصده بالصفوة؟ لم أكن أقصد القلة القليلة التي تتعالى على غيرها، ولم أكن أقصد بالحرافيش سوى جُلّاس المقاهي الذين لا يقرأون، كنت أقصد نوعاً معيناً من الصعلكة التي تبرر الجهل والتسول، وتنشئ نوعاً /ن العاهات النفسية التي لا يجب أن تصيب من يعملون بالثقافة، أردت أن أقول إنني لن أخضع لإراب غير الموهوبين ولن أنشر لهم شيئاً، المواهب نادرة، وستجد في كل مليونين مثلاً شاعر حقيقي، وهذه هي الصفوة التي كنت اقصدها.

ـ قرأت لك وصفاً لشعراء مثل حلمي سالم وعبد المنعم رمضان ووليد منير وحسن طلب وغيرهم بأنهم أحفاد شوقي، مع أن شعرهم لم يصل إلى الناس ولم يقدموا في أشعارهم فناً متميزاً كالذي قدمه شوقي وغيره من الشعراء العظام؟ هل كان هؤلاء يستحقون هذا الوصف؟يستحقون، لانهم فعلاً أحفاد شوقي، وأثبتوا وفاءهم لفن شوقي، أحفاد شوقي هم الشعراء المصريون الموجودون في الوقت الحالي كلهم، أنا أيضاً حفيد شوقي.

ـ لكن ليس كل أحفاد شوقي زي بعض؟
طبعاً (يضحك) حتى أحفاد شوقي الحقيقيون ليسوا مثله، أنا شفت بعض أحفاد شوقي لا يعرفون اللغة العربية أصلاً.

ـ عندما هاجمت مؤخراً في مجلة (إبداع) ما حدث في مجلة (فصول) من "إفك أدونيسي" كما أسميته، استشهدت بشعراء مصريين كانوا يستحقون أن يتم الاحتفاء بهم بدلاً منه، مثل وليد منير وعبد المنعم رمضان، ألا تعرف مدى تقدير هؤلاء لأدونيس وحبهم الشديد له؟
الذي أعلمه أن هؤلاء شعراء من حقهم الاحتفاء بهم، هل تريد أن تقول إنني أطالب بالحفاوة بشعراء لا يرون رأيي؟ هم شعراء، نختلف أو نتفق على مستواهم، نعجب بهم أو لا، هذا أمر آخر، لكن من حقهم أن نحتفي بهم، أنا أريد الاحتفاء بالشعراء الحقيقيين عرباً ومصريين وحتى الأجانب، ولذلك استغربت تخصيص المجلة كلها، 450 صفحة كلها من أجل شاعر واحد.

ـ هل المصالح وراء ما حدث؟
المصالح، ولا أرى شيئاً آخر، وأعتقد أن نصف ما نُشِر أرسله أدونيس نفسه، وهو الذي ترجم كثيراً مما نشر في العدد للأجانب عنه، تخيل أن أحد الكنديين الذين لا يعرفون العربية كتب قائلاً في المجلة: "قال لي أصدقائي إن أدونيس أحسن ناشر عربي"، هل هذا كلام يمكن أن تنشره مجلة علمية محكّمة، هذا لا يليق.

(نكمل بقية الحوار غداً بإذن الله وتقرأ فيه:
انحنيت مع هزيمة 67 وحياتي في فرنسا أنقذتني من الموت ـ لهذا أيدت الاحتفال بالحملة الفرنسية مع أني كان يمكن أن أساير الرأي العام ـ أؤيد الآن ما عارضت من أجله السادات لأن الكثير تغير ـ نزار قباني كان يحاول تغذية أسطورته لدى الناس بشكل لا أستطيع فعله ـ هذا ما جعلني أتغير).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.