الخال والد

الخال والد

24 يناير 2019
+ الخط -
كان خالي الأكبر ألمعيًا، وعنه أخذت حبي للأدب، الأدب بأنواعه، أدب الحياة وأدب الكتب وأدب الرجولة، وإذا كان أبي -ولا يزال- رجل الرجال بعيني؛ فإن الخال والد ولا ريب.

وخالي، الأستاذ محمد علي هندي، خبير لغة عربية بالمدارس الثانوية، يحمل بين جنبه همًا وهمة، وكثيرًا ما أتحفني في بواكير حياتي بشتى فنون الحياة، وكانت له في قلب جدتي مكانة لا تعادلها مكانة، وقد سمعتها -رحمها الله- يومًا تقول له: يا محمد! أريد منك كيت وكيت؛ فابتسم ابتسامته الصافية وقال: من أين؟ فبادرته بكلمات لم تغب ولن تغيب عني حتى أوارى التراب قائلة: أنت رجلنا، والرجل لا يسأل من أين آتيكم، بل يبذل ما في وسعه ليستر أهله بالحلال الطيب.

يا لها من كلمة! ويا لحكمة جدتي! ثم لم يكن لها من ابنها إلا ما يسر الخاطر ويسعد النفس، وكان هذا درس أتحفتنيه جدتي، وقد أفدته من خالي بشكل غير مباشر. ولما كان الخال والدًا، وكان لخالي الأكبر منزلة في نفس أمي، وهو حقيق بتلك المكانة السامقة، كنت ولا أزال أرنو إليه بعين ملؤها التقدير والإعجاب.


وتتلاطم أمواج الحياة على جنبات المرء، وتشتد وطأة الصعاب بين حين وآخر، وتضعف نفوس وتستسلم للحياة، تراها وقد ارتدت عباءة أبطال قصص المنفلوطي؛ فأطلقت ساقيها للهزيمة، أو أسرفت في التماس أسباب الفشل والخنوع، لا تواجه المصاعب ولا تضع حدًا لليأس، أفلتت من قبضتها كل عزيمة فارتخت أوصالها وآثرت الضياع؛ فأصبحت ريش في مهب كل ريح، وألعوبة في يد كل مهرج أو متهور. في هذا المحيط الخانق والظروف القاسية، يحتاج المرء إلى بيئة إيجابية يستمد منها بارقة أمل، ويدفع عن نفسه من خلالها أو بمساعدتها الأهوال؛ فيثبت أمام الريح العاتية، ويحاول أن يجد لحياته معنى، وألا يكون عالة على الحياة.

وتجسدت هذه المعاني في أبي ثم أخوالي؛ فلم أر والدي يحجب عني طلبًا ولو كان فيه تدمير ميزانية الشهر بطوله، حاتمي الكرم معنا وبخيلًا على نفسه، يؤثرنا على نفسه في الرخاء والشدة؛ فلست أرى له نظيرًا تحت الشمس، ثم شببت عن الطوق، وكان خالي يفتح لي دولاب ملابسه، ويختار لي أجمل ما فيه، ويقول لي بقلبه قبل لسانه: اطلب واتمنى! ولا يصدق فيه المثل القائل: "عشيك يحلى لي يا خالي، قال من سوء بختي يا ابن أختي"؛ فاجتمعت في أبي وخالي خلة كريمة، كرم الخلق والمعاملة.

وأذكر أن خالي لم ينفك يضرب لي ولإخوتي الأمثلة النبيلة، ويحبب إلينا الكفاح والمثابرة، وكان ذلك بفعله قبل قوله، وفي بعض الأيام روى لي قصة كفاحٍ يجدر بي أن أذكرها، وللأمانة فقد نسيت بعض تفاصيلها؛ فاستعنت براوية بيتنا -أخي مصطفى- فزودني بما غاب عني منها، والقصة لشابٍ لم يتمكن من مواصلة دراسته الإعدادية، وجاء موسم الانتخابات فأراد أن يدلي بدلوه، شأنه في ذلك شأن غيره؛ فما إن تكلم بما يراه حتى مال أحدهم وهمس في أذن المرشح، وكان مستشارًا وعضوًا برلمانيًا لامعًا. رفع المستشار يده في الهواء وصفع الشاب، وليته اكتفى بذلك، لكنه قال موبخًا ومقرِّعًا: "وأنت تطلع إيه؟ ما بقاش إلا أنت يا جاهل!"

وليسمح لي بلدياتي الدكتور يوسف إدريس أن أستعير تعبيره المعروف وأقول: كان هذا الموقف العابر بمثابة (اللحظة الحرجة)، وتغيرت حياة الجاهل رأسًا على عقب؛ ليتحول إلى علمٍ من أعلام كلية الآداب جامعة الزقازيق؛ إنه الدكتور سعيد مراد، أستاذ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الأديان. وتظل التربية بالقدوة من أعظم وأنبل وسائل التربية؛ فحيا الله كل من أثروا في حياتنا بما هم أهله، وما ضاع معروف قط.

دلالات