عن إعادة الاعتبار للفشل وتطبيق مكافحة الإلحاد

عن إعادة الاعتبار للفشل وتطبيق مكافحة الإلحاد

20 يناير 2019
+ الخط -
ـ ربما يكون من الصعب عليكِ أن تعترفي لابنكِ أو لابنتك أنك لم تكوني متفوقة في المدرسة، كما سبق أن زعمتِ. وربما يكون من المستحيل أن تقنعي زوجكِ بأن يتوقف عن النخع على الأولاد حول مشواره التعليمي المشرف، لأن مبالغاته غير المحبوكة ربما تدفعهم للتنقيب عن حقيقتها، وحينها سيفقد احترامهم إلى الأبد، في الوقت نفسه أعلم أن كثيراً من الأولاد والبنات يجيدون استغلال مسألة الصدق الشديد معهم لصالحهم، وأنكِ لو قررتِ أن تصارحيهم بكل شيء عن ماضيكِ الدراسي، حين تحاولين مستقبلاً لومهم على درجاتهم المزرية، سيواجهونكِ بحقيقة أنكِ لم تكوني متفوقة في الدراسة، لا أنتِ ولا الأب، فلماذا تثيران كل هذه الضجة إذن؟ ولماذا لا تتركونهم يشقون طريقهم في الحياة، دون اعتماد على الشهادات الحافلة بالدرجات العالية، تماماً كما فعلتما؟  

هي مشكلة كبيرة في الحقيقة، لكن ربما كان لها حل عملي يبتعد بكما عن الحرج الذي يتسبب به الصدق، وهو الحرص على استعراض نماذج الفاشلين أو المتعثرين دراسياً من المشاهير، لتساعدي طفلكِ على أن يدرك أنه "لا أحد كامل"، وأنه إذا صادف مشكلة في دراسته، فقد صادف مثل هذه المشكلة من قبله كثيرون من الذين أصبحوا نماذج معتمدة دولياً للنجاح والعبقرية، وعلى رأسهم ألبرت أينشتاين الذي كشفت دراسة علمية أن كثيراً من الطلاب حين يعرفون أنه عانى من الفشل والتعثر خلال سنواته الدراسية، فإن ذلك يساعدهم على تحسين أدائهم في المدرسة بشكل أفضل. 

الدراسة التي نشرت نتائجها مجلة (ذي أتلانتيك) أنهتها قبل عامين زيادونج لين سيجلر الباحثة المرموقة في مجال الدراسات المعرفية والأستاذة بجامعة كولومبيا الأمريكية، وقد كشفت في دراستها أن درجات الطلاب في المدارس الثانوية تحسنت كثيراً بعد أن أحيط الطلبة علماً بالمعاناة التي كان يخوضها كثير من العلماء في سنواتهم الدراسية، خصوصاً حين يكونون من الأسماء مرموقة والشهيرة مثل أينشتاين وماري كوري، في حين انخفضت درجات الطلبة الذين تم إمدادهم فقط بسيل من المعلومات عن إنجازات ونجاحات العلماء، دون الحديث عما لاقوه من صعوبات أو مشاكل. 

دراسة سيجلر دفعت كلية المعلمين بالجامعة إلى الإعلان مؤخراً عن إنشاء مركز للدراسات التعليمية متعددة التخصصات، سيكون من بين مهامه دراسة الطرق التي يمكن بها توظيف الفشل والتعثر الدراسي بشكل يساعد على تسهيل التعلم وتحسينه، حيث تنوي سينجلر التي تشرف على المركز أن تقوم بالتوسع في بحثها عن ظروف فشل الأشخاص الناجحين، بإجراء مقابلات مع عدد من العلماء الحائزين على جائزة نوبل، وعقد لقاءات مع باحثين من مختلف المجالات الأكاديمية من عدة دول حول العالم، للحديث عن تجاربهم التي تحول فيها الفشل إلى حافز وباعث على التغيير. 

تستغرب الكاتبة إيزابيل فتال التي عرضت نتائج الدراسة، من محدودية الدراسات التي أجريت حول تأثيرات الفشل ودوره كحافز للتطوير، برغم أن قراءة التجارب الإنسانية تشير إلى أن الكثيرين من الطلاب يساعدهم على التغيير أن يدركوا المصاعب والمشاكل التي تعرض لها من سبقوهم إلى النجاح، ويساعدهم ذلك على تقبل فشلهم وعثراتهم، وهو أمر لو أدركه أولياء الأمور ورجال التعليم على نطاق واسع، لاستخدموه في تشجيع الطلاب على معرفة أخطائهم ومحاولة تحسينها، ليمكن أن يتحول الفشل عندها من ضربة قاضية إلى فرصة لإعادة تنظيم الصفوف وتحسين الأداء، وهو ما لن يتحقق إلا بالبدء بإدراك أن الفشل جزء طبيعي من عملية التعلم كما تقول سيجلر في دراستها التي لن يلقي لها بالاً الكثير من الآباء والأمهات العاشقين لتقطيم أولادهم ولومهم وبستفتهم. 

تشير إيزابيل فتال إلى أن من المشاكل التي تواجهها دوائر التعليم في العقود الأخيرة، هو سيادة الاعتقاد أن المثابرة والاجتهاد هما وحدهما مفتاح النجاح في التعليم، ولذلك أصبحت كلمة مثل (مثابرة) الأكثر استخداماً في الأوساط التعليمية، خصوصاً لدى المعلمين والخبراء الذين يعتقدون أن أي طالب ستختفي مشاكله لو ثابر واجتهد واهتم بدراسته، في حين يجادل خبراء ومعلمون آخرون بأن التركيز على قيمة المثابرة وتصويرها كحل سحري لكافة المشاكل التعليمية، يتجاهل وجود عقبات اجتماعية واقتصادية، يمكن أن تعيق تحصيل بعض الطلاب، الذين لن يتم حل مشاكلهم، حين تلقي عليهم مواعظ عن أهمية المثابرة والاجتهاد، دون أن تحل ما يعانونه من عقبات ومشاكل، وهو ما يشير إليه بحث سيجلر الذي يقوم بالإشارة إلى كثير من الطلاب الذين يرون أن النجاح في الدراسة أمراً بعيداً عن متناول أيديهم، وأنه ليس أمامهم سوى الفشل. 

في دراستها التي أجريت عام 2016 وعايشت أكثر من 400 طالب في الصفين التاسع والعاشر، في أربع مدارس في مدينة نيويورك تقع في مناطق يغلب على ساكنيها أنهم من ذوي الدخول المنخفضة، وجدت الباحثة لين سيجلر أن كثيراً من الطلاب والطالبات نظروا إلى (النجاح) بوصفه أمراً يرتبط بمواهب وكفاءات طبيعية ليست موجودة لديهم من الاساس. لم يكن هؤلاء الطلاب يميلون إلى التفكير في علماء مشهورين مثل ألبرت أينشتاين كأشخاص حقيقيين بعيدين عن المثالية مثلهم تماماً، بل تصوروا أن لدى هؤلاء العلماء مواهب فطرية تجعلهم مختلفين عن أي أحد غيرهم لا يمتلك هذه الموهبة، وهي عقلية أثبتت الدراسة أنها تضر بقدرة الطلاب على الأداء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، التي يعاني فيها كثير من الطلاب، الذين يميلون بعد ذلك إلى الخروج من المدرسة، بعد أن يعانوا في دراسة تلك المواد، ويخفقوا في امتحاناتها لأكثر من مرة. 

للتأكيد على مدى انتشار المفاهيم الخاطئة عن النجاح والفشل، تستشهد لين سيجلر بتجربتها الشخصية، حيث نشأت في قرية نائية في أحد مناطق الصين، وبسبب ظروفها القاسية لم تذهب إلى المدرسة لجزء من طفولتها، ومع ذلك فقد انتهى بها المطاف بعد سنوات طويلة لتصبح أستاذة في جامعة كولومبيا المرموقة، وهو إنجاز أبهر أفراد أسرتها وأصدقاء طفولتها في وطنها، الذين فسروا نجاحها بأنه نتيجة لذكائها الخارق وموهبتها، ولم يكونوا يعرفون كما قالت إن احدى دراساتها رفضتها خمس مجلات أكاديمية قبل أن يتم نشرها، وهو ما حفز لين سيجلر على تحسين أدائها وتطويره، لأنها كانت تعرف أنها لم تكن الوحيدة التي تعرضت للفشل من بين ملهميها ومن يشكلون لها قدوة، لينتهي المطاف بها إلى دراسة قيمة الفشل من خلال المركز الذي تقول سيجلر إنه سيعنى بدراسة الفروق الدقيقة التي يحدثها الفشل، وهي فروق تختلف من مهمة تعليمية إلى أخرى.

يسعى المركز إلى مساعدة المؤسسات التعليمية على إدراك الفروق التي تميز المهام التعليمية عن بعضها البعض، وبحث كيفية الاستفادة منها لتطوير أدائها التعليمي، على سبيل المثال سيقوم باحثو المركز بدراسة استراتيجيات يمكن أن تساعد طلبة الطب على التفكير في التعامل مع الفشل، الذي يعني بالنسبة لهم إمكانية أن يفقد شخص حياته، وهو ما يجعله فشلاً خطير العواقب، وهو ما يمكن أن يؤثر على تحصيل طلبة الطب وأدائهم الدراسي، وتأمل سيجلر أن تقوم تلك الاستراتيجيات بمساعدة طلاب الطب على الفشل بشكل أقل، وأن تساعدهم أيضاً على التفكير فيما إذا كانت مهنة الطب مناسبة لهم، وما إذا كانوا سيستطيعون التأقلم معهم، خاصة أن كثيراً من الذين يلتحقون بدراسة الطب يفعلون ذلك إرضاءاً لأسرهم، لسبب أو لآخر. 

تدرك لين سيجلر أن تقبل الاعتراف بقيمة الفشل لن يكون أمراً سهلاً في النظم التعليمية السائدة في العالم، حيث يؤدي التركيز على درجات الامتحانات إلى وضع المعلمين والمعلمات تحت ضغط هائل، ليقوموا بناءاً على نتائج الامتحانات بتحديد أولوياتهم على الفور، ودون أن يحصلوا على وقت أطول للتفكير والتصرف، وفي ظل ذلك النظام سيكون من الصعب أن تقنع المعلمين والمعلمات بفكرة أنه لا توجد مشكلة في السماح للطلبة بالفشل من حين لآخر، لأن ذلك لن يكون مرضياً لمديريهم والمشرفين عليهم، فضلاً عن أولياء أمور الطلبة الذين ينتظرون من أبنائهم أن يكونوا أعظم من أينشتاين وأغنى من بيل جيتس وأذكى من ماري كوري، دون أن يسمحوا لهم بأن يمروا بما مر به هؤلاء العظماء من عثرات وإخفاقات. 

 ـ في خطوة متطورة، نسأل الله ألا نشهدها في بلادنا التي يفرح حكامها بأي تجارب تحمل الأذى للناس وتحاول تشكيلهم في قوالب مصمتة لا تشكل أي خطر على استقرار النظام الحاكم، قامت الحكومة الإندونيسية بتطبيق تجربة تكنولوجية لمساعدة المواطنين على الإبلاغ عن جيرانهم ومعارفهم الذين يعتنقون أفكاراً إلحادية، طبقاً لما نشرته الكاتبة كارينا تيهوسجارانا في صحيفة (جاكرتا بوست)، والتي تحدثت عن قيام المدعي العام للعاصمة الإندونيسية جاكرتا، بإطلاق تطبيق على الهواتف المحمولة قبل أسابيع يساعد مستخدميه على الإبلاغ عن من يعتنقون أفكاراً وصفها المدعي العام بأنها "إلحادية أو مضللة". 

التطبيق الذي يحمل عنوان (باكيم الذكي) يحتوي على قائمة بالمعتقدات والأفكار المرفوضة والمنظمات المحظورة، لتسهيل المهمة على المواطن الذي يرغب في الإبلاغ عن من يحملون تلك المعتقدات أو يتعاملون مع تلك المنظمات، كما يحتوي التطبيق "الذكي" على قائمة بأبرز الفتاوى التي أصدرتها الجهات الدينية الرسمية في أندونيسيا، ولكي لا يجد المواطن الغيور على دينه صعوبة في الإبلاغ عن جاره أو قريبه أو زميله، يحتوي التطبيق على استمارة سهلة التصميم يمكن للمبلغ عن "المخالفة" ملئها بسهولة، وإرسالها سريعاً إلى مكتب المدعي العام، وهو ما تتوقع المنظمات الحقوقية أن يفضي إلى كم كبير من القضايا والمحاكمات. 

المضحك المبكي أن أندونسيا كغيرها من الدول التي تحب أن تصف نفسها بالإسلامية، تزعم حمايتها لحرية العبادة وحرية العقيدة، خصوصاً لمواطنيها المنتمين إلى أقليات دينية تعترف بها الدولة، مثل المسيحيين والهندوس، وهو ما سيجعل استهدافهم بذلك التطبيق أمراً صعباً، على عكس ما ينتظره المنتمون مثلاً إلى طوائف وفرق إسلامية غير معترف بها رسمياً، مثل الطائفة الأحمدية التي أعلن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في البلاد أنها طائفة كافرة وخارجة عن الدين الإسلامي، مما سيجعل أفرادها هدفاً مفضلاً لمستخدمي التطبيق من عشاق رياضة الغيرة على الدين. 

في ردها على الانتقادات التي وجهت لتطبيقها اللعين، قالت الحكومة الأندونيسية مطمئنة للقلقين على حرية العقيدة والتعبير، إن من يتم الإبلاغ عنه من خلال التطبيق، لن يتعرض للعقوبة فوراً ولن تتم إزالته من على وجه الأرض فور القبض عليه، بل سيتم التحقيق في أمره بروية، وأن القانون الأندونيسي يبيح مثل هذه المراقبة، وهو ما رد عليه الحقوقيون والمعترضون على ما يجري، مؤكدين أن هذا التطبيق الكريه يطرح ضرورة تعديل القوانين التي تسمح بالتدخل في معتقدات الناس وأفكارهم، وأن على الحكومة إذا أرادت أن تحقق استقراراً في البلاد، أن تتوقف عن تجريم العقائد والأفكار المخالفة لاعتقادات وأفكار الغالبية. 

سيتضاعف إدراكك لخطورة ذلك التطبيق، الذي لن يكون مجرد تسلية لهواة الإبلاغ في المختلفين معهم، إذا كنت ممن شاهدوا الفيلمين الوثائقيين (فعل القتل) و(شكل الصمت) الذين أنجزهما المخرج جوشوا أوبنهايمر قبل أعوام، وروى فيهما بمعاونة فنانين أندونيسيين لم يتم إدراج أسمائهم في تيترات الفيلمين خوفاً على حياتهم، وقائع الإبادة الجماعية التي تعرض لها مئات الآلاف من المواطنين الأندونسيين الذين تم اتهامهم بالشيوعية والإلحاد، بمباركة من الدولة الحامية للإسلام والمدعومة من الولايات المتحدة والغرب الذين كانا وقتها على عداء مع الاتحاد السوفيتي، ولذلك لم تحرك ساكناً تجاه المذابح الجماعية التي جرت على الملأ، ولا زال من ارتكبوها يتفاخرون بها، ويتقربون بها إلى الله، حتى أنهم لم يجدوا أدنى حرج في إعادة تمثيلها أمام الكاميرات. 

يا له من بؤس. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.