يوم مات فيه أبي

يوم مات فيه أبي

16 يناير 2019
+ الخط -
ظلام الليل لم ينقشع بعد، رغم تسلل بعض النور الخافت لصالة المنزل الصغير الواقع في قلب القرية؛ الجوّ لا يزال ساكناً مواصلاً هدوء الليل؛ أصوات العصافير لا تزال تشقشق على الأشجار القريبة وأسطح المنازل، لا أثر بعد لأصوات الفلاحين الذين يغنّون ويتسامرون ويتضاحكون وهم يتجهون للحقول عقب صلاة الفجر مباشرة، لا صوت بعد للبهائم التي تقطع يومياً المسافات نحو الزراعات الخضراء، وكأنها تعتبر أن فترة وجودها في المنازل ليلاً هو سجن.

الجدة مشغولة في تنظيف البيت وإعادة ترتيب أركانه، الأم مختفية عن الأنظار لا وجود لها رغم أنها هي أول من تراه عين الأسرة صباحاً، لا أثر للأخوة الأربعة الكبار، والأهم لا حسّ للأب الذي كان الجميع يستيقظ على صوته حينما يقول: "يلا يا أولاد اصحوا.. كفاية نوم يا شباب.. ربنا لا يحب المتكاسلين.. اصحوا قوموا شوفوا رزقكم قبل شروق الشمس، الرزق يوزع الآن".

كان هذا هو أبرز ما لفت نظر الطفل الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، عندما أيقظته الجدة من نومه مبكراً طالبة منه "فك البهائم من الحوش"، والذهاب بها للحقل على الفور. كانت الجدة حازمة في طلبها للطفل رغم أنها حاولت رسم بسمة خفيفة على وجهها، لكنها بسمة لا تشبه تلك البسمات التي كانت توزعها على أحفادها صباح كل يوم عندما يستيقظون ومساءً عندما يعودون من الحقل.

استغرب الطفل طلب الجدة، فعادة ما تكون هذه المهمة من نصيب أخويه الكبيرين، ذراع الوالد في الزراعة والحصاد والريّ ورعي الغنم وغيرها، أو أن يكون الطلب لكل إخوته الكبار عندما يكون الأب مشغولاً في أداء واجب اجتماعي، عزاء مثلاً أو زيارة مريض في مستشفى، أو يكون الطلب للطفل من أبيه مباشرة الذي كان يحرص على اصطحابه معه للحقل دون تكليفه بأي أعباء ثقيلة، إذ إنه "آخر العنقود وله غلاوة خاصة" كما كان يقول الأب.


الوقت كان بعد صلاة الفجر مباشرة، الطفل يفرك عينيه غير مستوعب ما تطلبه الجدة منه، يسأل نفسه في دهشة: هل اقتنعت الجدة، وقبلهما الأب والأم، أخيراً إنني بت رجلاً يمكن أن يعتمد عليه ويكون مسؤولاً عن أسرة وقادراً على القيام بدور الأب والإخوة الكبار في ريّ الأرض والزراعة، وتوفير البرسيم للأبقار ورعي الغنم، والأهم حمايتها من الثعالب والذئاب التي تهاجمها من وقت لآخر، وخاصة فترة الظهيرة حيث الجميع مشغول بتناول وجبة الغذاء، وإنني لست طفلاً كما يتعامل معي إخوتي الكبار؟

قفز الطفل من السرير الخشبي الذي كان ينام عليه، وبسرعة جرى نحو "حوش" البهائم ليطلق الحرية للأبقار ويفك عنها محبسها، ركب الحمار صديقه الوفي، اتجه نحو الحقل الواقع في أقصى شمال القرية وكأنه يسابق الزمن، كان فرحاً فخوراً بأنه يقوم بما يقوم به الرجال الكبار كل يوم، كرر بالضبط السيناريو الذي كان يقوم به أبوه وإخوته الكبار عندما كانوا يصلون إلى الحقل، أولاً يربط البهائم في مكانها بعد أن تشرب من الترعة الصغيرة التي تقع مباشرة على رأس الحقل، وبعدها يتوجه لحقل البرسيم حيث يجمع للبهائم فطورها.

أنهى الطفل المهمة المكلف بها من الجدة بسلام شاعراً بالفخر، أخيراً لن يطلق علي إخوتي الكبار كلمة "عيل صغير"، أخيراً وبعد 3 ساعات من التعب قرر أخذ راحة، جلس في مكانه المفضل أسفل شجرة النبق التي كانت تقع في الربع الأخير من زراعة القصب، جمع أعواداً من قصب السكر الذي كان يعشقه، أمسك حجراً وقذف به شجرة النبق التي كانت تقع وسط الحقل وتظلل البهائم، جمع نحو 20 نبقة كبيرة، العدد يكفي.

جلس أسفل النبقة وبالقرب من البهائم وهو يستمتع بالمشهد الخلاب، خضرة من حوله، زراعات مفتوحة ومتنوعة ما بين قمح وقصب سكر وذرة شامية وبرسيم، وخضروات ومياه في الترعة التي تبعد خطوات عن مكانه.

وبينما هو غارق في أحلامه، إذا بصوت يقذفه في أذنيه بكلمات أقسى من الحجارة التي قذف بها شجرة النبق منذ قليل، صوت عال يأتيه من الخلف ويقول له: "أبوك مات وأنت جالس هنا تأكل النبق والقصب وتتأمل في الخضرة.. لقد مات أبوك فجر اليوم".

كلمات قاسية نزلت على رأس الطفل الصغير كالصخرة، أو كحجر كبير يفوق مئات المرات الحجر الصغير الذي قذف به شجرة النبق منذ قليل، حجر طار إلى رأسه ليفلقه شطرين ويشطر معه أحلامه في الحياة.

الآن، فهم الطفل كيف حرصت الجدة على مغادرته المنزل في الصباح الباكر وقبل إعلان نبأ وفاة الأب، كانت لا تريد أن يعرف الطفل النبأ الفاجعة عقب استيقاظه مباشرة فيفزع، كانت الجدة التي كانت تشبهه من حيث الشكل تخاف عليه من الصدمة وهو طفل صغير لم يعرف معنى الموت بعد، كانت لا تريد أن يرى الطفل النساء وهنّ يصرخن ويتسابقن في النحيب بصوت عال، أو أن يسير في جنازة الأب وهو طفل لا يتعدى العاشرة من عمره.

ذهب الطفل إلى البيت كالمجنون، الصدمة والفزع والخوف تسيطر عليه، لا يعرف كم قطع من مسافة حتى يصل، اقترب من البيت؛ نساء يلتحفن السواد يجلسن في صحن المنزل، لم يتعب كثيراً في البحث عن أمه وكأنها كانت تنتظره.

"أين أبي يا أمي.. أحقاً مات، هل ذهب إلى الجانب الآخر من البحر حيث مدافن القرية"، هكذا سأل الطفل أمه ببراءة شديدة والدموع تغرق عينيه.. ارتمى الطفل في حضن أمه وطلب منها أن تحميه حتى لا يخطفه الموت فجأة كما خطف أباه منذ ساعات، ضمّت الأم الطفل في حضنها ودموعها الدافئة تغرق وجهه.

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".