قِفا نبكِ من فرط الجوى بسياتلِ (2 - 2)

قِفا نبكِ من فرط الجوى بسياتلِ (2 - 2)

17 يناير 2019
+ الخط -
كنت قبل أن يدخل بطلنا الباكي وصديقته المرتبكة إلى المشهد، أقول لنفسي إنني لم أر في شوارع (سياتل) ما كنت أتوقعه من حضور لافت للسكان الأصليين، ذلك الحضور الذي كنت قرأت عنه في قصة شهيرة بعنوان (ما ترهنينه أنتِ أستعيده أنا) كتبها كاتب مهم من أبناء السكان الأصليين اسمه شيرمان أليكسي، وترجمها الدكتور علي القاسمي ضمن مختاراته لبعض أجمل القصص الأمريكية في القرن العشرين، وقد اختار في ترجمته أن يستخدم مصطلح (الهنود الحمر) بدلاً من مصطلح (السكان الأصليين)، ربما لأنه لا يحوي في استخدامنا العربي الدلالات السيئة التي يحويها استخدامه في الإنجليزية، وهو ما ستجده مثلاً لدى مترجمين عرب من بلدان وأجيال مختلفة يستخدمون مصطلح (زنجي) في الإشارة إلى الأمريكيين السود، أو الأمريكيين من أصل أفريقي دون أن يجدوا مشكلة في ذلك.

تشير قصة شيرمان أليكسي التي نشرت في تسعينيات القرن الماضي، إلى ظاهرة انتشار الهنود الحمر المشردين في شوارع مدينة سياتل، حيث يأتي كثير منهم إلى المدينة قادمين من ولاية ألاسكا التي تضم أعلى نسبة سكانية لهم في الولايات المتحدة، لكن القصة تتجاوز وصف الظاهرة، للحديث عن محاولات ساكن أصلي من المشردين في شوارع سياتل استعادة بدلة رقص تراثية تعود ملكيتها إلى جدته، بعد أن رآها بالصدفة معلقة في فاترينة محل رهونات، كان بطل القصة قد رأى جدته ترقص بالبدلة قبل خمسين عاماً، قبل أن يسرقها شخص ما فتختفي من حياة العائلة، لكنها لم تفارق ذاكرة البطل الذي لم ينس ريشها الملون وخرزها الذي كانت تستخدمه الجدة لخياطة ملابسها. حين طلب المتشرد من صاحب محل الرهونات أن يعيد إليه بدلة جدته المسروقة التي هي من حق أسرته، طلب منه صاحب المحل برهاناً على امتلاك عائلته لها، فقال له المتشرد إن بني قومه لا يؤمنون بفكرة الكمال، لأن الكمال لله وحده، ولذلك كانوا يتركون شقوقاً في ثنايا بدلات رقصهم، ويخفون فيها أشياء صغيرة تخصهم، أسرته مثلاً كانت تضع في ثنايا ملابسها خرزة صفراء لا يمكن العثور عليها بسهولة.



بدافع الفراغ أو ربما التحدي، قام صاحب المحل بالبحث عن الخرزة الصفراء، ليفاجأ بها مختفية بالفعل في ثنايا البدلة، ولكي يثبت احترامه لوعده، قال للمتشرد إنه سيعيد إليه بدلة رقص جدته، فقط لو قام بدفع مبلغ 999 دولار ثمناً لها، لأنه اشتراها بمبلغ ألف دولار، ووافق المتشرد على العرض برغم أنه لا يعرف كيف سيقوم بجمع المبلغ. خلال تجواله في شوارع سياتل محاولاً جمع المبلغ، أخذ بطل القصة يتذكر جدته أجنز التي توفيت بفعل مضاعفات سرطان الثدي الذي أصيبت به بسبب التلوث الذي أحدثه في المحمية منجم يورانيوم قامت الحكومة الفيدرالية بحفره، لكن أمه كان لها تشخيص مختلف لمرض الجدة، حيث ترى أنه بدأ حين كانت الجدة عائدة ذات ليلة من مهرجان ديني للهنود الحمر، فدهستها دراجة نارية وكسرت ثلاثة من ضلوعها، لتعالج تلك الضلوع المكسورة بطريقة خاطئة، وحين لم تلتئم بصورة صحيحة، كان ذلك بداية رحلة الجدة مع المرض، حيث تعتقد الأم أن الأورام السرطانية تظهر فقط حين لا تلتئم الجراح ولا الكسور بصورة صحيحة.

خلال رحلته العبثية في شوارع سياتل لاستعادة بدلة جدته، يتساءل المشرد عما إذا كان سرطان جدته قد بدأ يتشكل في اللحظة التي سرق أحدهم بذلتها للرقص التي كانت قريبة إلى قلبها؟ يقول لنفسه "ربما بدأ السرطان في قلبها المحطم ثم تسرب إلى ثدييها، أعلم أنه نوع من الجنون، ولكني تساءلت عما إذا كان في وسعي إعادة جدتي إلى الحياة إذا اشتريت بذلتها المرهونة"، وحين يدرك صعوبة جمع المبلغ المطلوب، يذهب إلى منظمة متخصصة في مساعدة فقراء الهنود الحمر، تحمل عنوان (الصرف الحقيقي) وتعلن أن رسالتها هي التنظيم والتثقيف وإيجاد حلول لمشكلتي التشرد والفقر المنتشترين في أوساط الهنود الحمر، "لمنح صوت للفقراء في مجتمعنا"، لكنه يفشل في إقناع مسئولي المنظمة بأهمية سعيه لاستعادة بدلة جدته، ولا يجد تضامناً سوى بالكلام وبمشاعر التضامن من الهنود الحمر الكثيرين الذين يجدهم في حانة (القلب الكبير)، والذين "يحبون الشعور بالانتماء ولهذا فنحن جميعاً نتظاهر بأننا أبناء عمومة"، لكنه برغم كل ما يلاقيه من صعوبات، يواصل تشرده في شوارع سياتل حالماً باستعادة بدلة جدته قبل أن تضيع منه ومن أسرته إلى الأبد.

لم أجد شيئاً من هذه الأجواء في شوارع سياتل حين زرتها مؤخراً، لم يكن عدد المتشردين في شوارع المدينة كبيراً مثل عدد المشردين في شوارع مدينة بورتلاند عاصمة ولاية أوريجون القريبة، والتي قدمت منها إلى سياتل، قال لي من سألتهم إن سياتل كانت تشهد وجوداً مكثفاً للمشردين من كل جنس ولون، لكن ذلك اختفى بعد "الانفجارة" الاستثمارية التي حدثت في المدينة خلال الأعوام الأخيرة، والتي كانت شركة (أمازون) العملاقة أبرز وجوهها، لا أذكر أنني رأيت خلال الأسبوعين الذين أقمتهما في المدينة وجوداً ملفتاً للمتشردين، اللهم إلا لمتشردة بيضاء خفيفة الظل، قررت بذكاء استثمار مشاعر الكراهية المتنامية في المدينة لدونالد ترامب، فصنعت لافتة من الكرتون تلعن فيها سنسفيل دونالد ترامب، لتحث كل من يتوقف لقراءة اللافتة أن يعطيها قدراً من الدولارات يكافئ كراهيته لترامب.



على سلم ترتيب الولايات الأمريكية التي تشهد حضوراً كثيفاً للسكان الأصليين، تحتل ولاية واشنطن وعاصمتها سياتل المركز السابع، بتعداد يصل إلى أكثر من مائة ألف مواطن بقليل ينتمون إلى أكثر من 29 قبيلة، دفعتهم حروب الإبادة والتطهير إلى التركز في ثلاث محميات أو تجمعات كبيرة في الولاية، ولأن المدينة تمتلك حساً سياسياً وثقافياً مميزاً، لم يكن من الغريب أن أجد لدى عدد من بائعي الصحف في المدينة صحيفة ومجلة مخصصتين لشئون وقضايا السكان الأصليين، لكنني في الوقت نفسه لم أشهد حضوراً مميزاً لهم كما أوحت لي بذلك قصة شيرمان أليكسي، بل إنني لم ألتق وجهاً لوجه بأحد هؤلاء السكان الأصليين الذين قرأت عنهم كثيراً من قبل، إلا داخل تلك القاعة التي ختمت بها زيارتي لمتحف (سام).

كان صوت صديقته العالي هو ما لفت انتباهي إليه في القاعة الخاوية، كانت السيدة قد صرخت بمجرد دخولها إلى القاعة: "يا إلهي يا إلهي أنا سعيدة يا حبيبي أنك اصطحبتني إلى هنا"، وحين رأى أن صوتها لفت انتباهي نظر إليّ مبتسماً بحرج، ثم احتضنها وهمس في أذنها بكلمات لم يكن يصعب أن أتخيلها طلباً بالهدوء، لكنها لم تستجب لطلبه طويلاً، فقد عادت بعد لحظات للتعليق بصوت عال على كل قطعة فنية يقفان أمامها: "يا إلهي أنتم حقاُ قوم مبدعون، لم أكن أتصور أنكم رائعون هكذا، أنا فخورة بك حبيبي"، مستغلة كل فرصة ممكنة لتقبيله واحتضانه بشكل أزعجه فقرر أن يفلت يدها التي لم تفارق يده منذ دخلا إلى القاعة، ليأخذ مسافة أبعد عنها، مستغرقاً في تأمله للأعمال التي كان يبدو جلياً أنه يراها لأول مرة، في حين كانت هي مشغولة به وبمشاعره أكثر من انشغالها بما هو معروض في القاعة.

لو كان في القاعة سوانا نحن الثلاثة، لكانت مراقبة تفاصيل تلك العلاقة الملفتة أسهل بالنسبة لي، لذلك اكتفيت بالتقاط صورة سريعة لهما، وعدت لتأمل الأعمال الجميلة المنتشرة في القاعة، لكي لا أسلم نفسي لغواية البحلقة التي يمكن أن توقعني في حرج مع هذه السيدة الصاخبة التي لا تكف عن التلفت في كل اتجاه، غير ما هو معروض على حوائط القاعة. اقترب الاثنان مني أكثر، ووقفا أمام قطعة من قارب خشبي يعود عمره إلى مئات السنين، كانت قد حُفِرت عليه رسومات لا يمكن أن تتبين معالمها إلا إذا انحنيت مقترباً من الفاترينة الزجاجية التي وضعت القطعة النادرة خلفها. لم أكن أتوقع أن ذلك الرجل الكُبّارة جامد الملامح، سينفجر في البكاء فور تبينه للتفاصيل المرسومة على القطعة الخشبية، لم يكن بكاءاً متدرجاً، بل كان انهياراً مفاجئاً أربكني وأربك صديقته التي كنت بعد نظرات سريعة متلاحقة إلى وجهها، قد أدركت أنها أكبر منه بسنوات قليلة، اقتربت منه وأخذت تربت عليه وسألته عما يبكيه، فعلا صوت بكائه أكثر، همّت باحتضانه فأبعدها عنه برفق وقال لها بصوت مسموع: "آسف يا حبيبتي أريد أن أكون لوحدي الآن"، بوغتت بما قاله، وتجمدت في مكانها للحظات، ثم انهارت هي الأخرى في البكاء، لكن شيئاً ما في بكائها أزعجه، وجعله يدفعها برفق أقل، حين حاولت احتضانه من جديد، مكرراً طلبه بأن تتركه لوحده قليلاً.



كنت قد آثرت الابتعاد قليلاً مع علو نشيجه، لكنني لم أقو على تجاهل الموقف، لتقع عيني في عينها، وهي تقف مرتبكة مكبوسة، لا تجرؤ على الذهاب إليه في ركن القاعة الذي خلا بنفسه فيه وأخذ يواصل البكاء، ابتسمت لي محرجة، وكأنها وجدت في التقاء عينينا فرصة للخروج من غرابة الموقف الذي لم يكن أحد ليتوقعه على الإطلاق، والذي ذكرني بصورة رأيتها لمواطن عراقي يقف باكياً أمام آثار عراقية تم نهبها عقب الاحتلال الأمريكي لتستقر في متحف بريطاني، لكنني في الوقت نفسه لا أذكر أنني ضبطت نفسي أشعر بالحزن، حين أرى أثراً فرعونياً في أي متحف أزوره، بالعكس دائماً ما كانت تتملكني مشاعر الفخر الممزوجة بالارتياح لأن هذا الأثر وجد طريقه إلى "حد أمين" يوفر له فرصة عرضه كجزء من ذاكرة الإنسانية، بدلاً من أن يستقر في جنبات قصر فخيم، ليتفشخر به علية القوم على بعضهم البعض.

جلست لأراقب الموقف على كنبة بلا ظهر تم وضعها أمام شاشة تعرض فيلماً تسجيلياً عن تاريخ السكان الأصليين في ولاية واشنطن، مر الفيلم مرور "الكرام" على أشهر الحروب التي خاضوها مع الغزاة الذين هاجموا مناطقهم والتي كان من بينها حرب ياكيما التي استمرت ثلاث سنوات كاملة، ليخصص وقتاً أطول لعادات وتقاليد السكان الأصليين ويعرض نماذج لرقصاتهم وأغانيهم وطقوسهم في الصيد والزراعة والرعي، لكنني حين رأيت السيدة تقف في ركن قريب مرتبكة وباكية، قررت الذهاب إليها لأسألها هل هي بخير، كان سؤالاً تقليدياً لكني لم أكن أملك غيره كمدخل للحديث معها، لم تتقبل سؤالي بجفاء، بل قالت لي وهي تحاول التوقف عن البكاء: "شكراً، أنا بخير، لكني قلقة عليه"، وبعد صمت قصير قررت أن تبتعد عنه أكثر وتسير معي إلى حيث كنت أجلس، شاغلة نفسها بالنظر إلى الشاشة التي كانت تعرض طقوس موكب صيد تصاحبه أهازيج أو ربما تراتيل، لتقول لي بعد قليل وهي تغالب البكاء: "كنت غبية حين اقترحت عليه أن نأتي إلى هنا، لم أكن أتصور أنه سيتأثر إلى هذه الدرجة".



بعد لحظات صمت عادت السيدة ثانية إلى بكاء حرصت على أن يكون مكتوماً لكي لا يبلغه، خاصة أن صوت نشيجه كان قد خفت نوعاً ما، انحنت ووضعت وجهها بين يديها وهي تحاول التماسك، فلفت انتباهي وشم على ذراعها يظهر امرأة ترتدي فستاناً زاهي الألوان، وتنظر إلى شيء يشبه الشمس، وحين توقف صوت نشيج رجلها الذي كان قد اختفى عن أنظارنا قليلاً ثم عاد إلى محط أنظارنا، رفعت رأسها واعتدلت في جلستها متطلعة إليه، وابتسمت بسعادة حين رأت أنه قد تمالك نفسه وعاد ليستغرق في تأمل اللوحات والأقنعة والتماثيل، ثم نظرت إلي وقد أشرق وجهها بابتسامة وقالت: "هل تصدق أن هذه أول مرة أراه فيها يبكي، نحن صديقان منذ خمسة سنوات تقريباً ولم أسمع صوت بكائه ولا مرة، حتى حين يشرب كثيراً لا يبكي، أنا التي أبكي دائماً بعد كأسين أو ثلاثة، مع أن أحزاني لا تقارن بأحزانه"، وقبل أن أسأل عما تقصده بذلك أضافت: "يكفي ما حدث لقومه، أحياناً تتصور أن هذه الأشياء يمكن نسيانها والتعامل معها كذكرى لا تخصك، ثم تأتي إلى مكان كهذا فتكتشف أن ذلك غير صحيح".

كانت حريصة على أن تتحدث بصوت خافت، بعد أن رأت كيف ساعد خواء القاعة على تضخيم صوت نشيجه وبكائها، مدت ذراعها الأيسر نحوي، وأرتني بفخر ساعة جميلة الشكل اتضح أنها مطرزة برسوم من رسومات السكان الأصليين، ثم قالت بسعادة وهي تشير نحوه: "أهداني هذه الساعة بعد عام من علاقتنا، قال لي إنها تعني له الكثير"، ثم مالت علي أكثر وقالت: "كنت أفكر في أن أشتري له من متجر المتحف تذكاراً مما أعجبه هنا، لكنني لن أخاطر بذلك بعد ما حدث"، كنت حريصاً على أن لا أنطق إلا بما يفيد التعاطف والتضامن، مع أنني كنت أملك ألف سؤال وسؤال عنهما وعن علاقتهما وكيف التقيا ومتى وأين، وقبل أن أختار سؤالاً مما لدي لأصِل به حبل حديث، ربما يصير حبل مودة بعد ذلك، عاد صوت صاحبنا للنشيج من جديد، وعادت هي للتطلع إليه مرتبكة وقلقة.

نظرت إلي بعد لحظات من الارتباك وقالت: "لا أعتقد أن من المناسب أن أذهب إليه، لم أره منهاراً هكذا من قبل"، هززت رأسي موافقاً وقلت لها إننا لن نفهم مشاعره إلا حين نتعرض لتجربة احتلال أرضنا مثل ما حدث لقومه، وأنني حين رأيته يبكي بكل هذه الحرقة، تذكرت قصيدة كتبها شاعر فلسطيني عن تفكيره في مشاعر الهنود الحمر، حين رأيت مشاعر الدهشة على وجهها مما قلته، تذكرت أنها مواطنة بيضاء صالحة، ربما لا تعرف أصلاً موقع فلسطين على الخريطة، كان على يسارنا بالمناسبة خريطة لأماكن تواجد السكان الأصليين على طول الساحل الشمالي الغربي، فانشغلت بالنظر إليها، وأنا أجتهد في تذكر مطلع القصيدة التي كتبها محمود درويش، والتي لم أعد أذكر شيئاً عنها، سوى أنها كانت في ديوان (أحد عشر كوكباً).

عاد صاحبنا الباكي إلى الصمت من جديد، وكنا قد عدنا للتشاغل بمشاهدة الفيلم الذي اتضح أن مدته لم تكن طويلة، وأنه يعاد تلقائياً بمجرد انتهاء عرضه، وحين عرضت الشاشة مشهداً لرقصات مبهجة، نظرت إلي مبتسمة وقالت: "هل تصدق أنني لم أذهب إلى المكان الذي يسكن فيه أهله حتى الآن؟"، وقبل أن أسأل أو أعلق أضافت: "ليس الأمر سهلاً، أنت تعرف كيف يفكر الناس، يعني أبنائي لم يتقبلوا الفكرة بسهولة، لم يرفضوا علاقتي به لأنهم لا يملكون الحق في ذلك، لكن يعني، أنت ترى في الوجوه أشياء كثيرة مما يمكن أن يقال، لديهم أيضاً هناك من يأخذون مثل هذه الأمور بجدية، يمكن أن تفهم موقفهم بعد كل ما فعلناه، لكن المسألة كلها غبية، أليس كذلك؟"، هززت رأسي بقوة محاولاً ألا أنطق بتعليق يربكها ويدفعها ثانية إلى الصمت، لتقول بعد قليل: "أعتقد أن ما يجعله عاطفياً أكثر أنه يشعر بذنب لأنه لم يزر أهله منذ سنوات، لذلك كان متردداً في المجيئ إلى هنا، يكره كثيراً حين أحدث أحداً عن عرقه وأصله، ولا يمكن أن ألومه، لأن الأسئلة الغبية تتوالى بسرعة، حتى حين تكون حسنة النية وطيبة، يشعر أنها تلغي وجوده الشخصي وتجعله موضوعاً للفرجة أو التعاطف، أتصور أنه كان يكتم هذه المشاعر وقتاً طويلاً ولذلك انفجرت هنا"، وبعد أن ضحكت ضحكة مقتضبة قالت: "لن أفهم مثل هذه المشاعر أبدا على ما يبدو، يعني حين دخلنا قاعة الفن الأوروبي لم أشعر بأي حنين إلى أي لوحة رسمها فنان ألماني، لا أعرف شيئاً عن ألمانيا ولا أبي ولا أمي ولا حتى جدي ولا أريد أن أعرف"، قلت لها أن هذا ما حدث لي أيضاً حين دخلت إلى قاعة الآثار الفرعونية، وحين عرفت أنني من مصر، لم يدع لي انبهارها المصحوب بالأسئلة المتلاحقة فرصة لأسئلة أكثر عنهما.

على عكس ما تمنيت، لم يدم وقت حديثنا أطول، بعد أن قطعه صاحبنا الذي توقف عن البكاء منذ فترة، حين قدم نحونا قررت هي بحركة أنثوية لطيفة أن تتجاهل قدومه وتركز في الشاشة، كأنها ليست مهتمة بمجيئه، وقد كان لديه من الذكاء العاطفي ما يجعله يلتقط إشارتها المتغاضبة مما فعله، وحين وصل إلى الكنبة التي نجلس عليها استغل أفضل استغلال كونها بلا ظهر، جلس على الناحية المعاكسة مسنداً ظهره إلى ظهر صاحبته، وحين لم تتجاوب معه على الفور، برغم أنني رأيت ضحكتها تضيء وجهها، أمال رأسه إلى الخلف أكثر ليلامس رأسها فخلعت القبعة السوداء التي كانت ترتديها وأمالت هي رأسها إليه، وبدا أن أسلم ما أفعله هو ترك الكنبة على الفور لأتيح لهما فرصة العتاب والتصافي، لكنها حين وقفت أمسكت بيدي في حركة مفاجئة، ثم التفتت إلى صاحبنا بلطف قائلة له كأنها تواصل حديثاً بينهما لم ينقطع: "أحب أن أعرفك على صديقي، كاتب من مصر"، استدار وصافحني بحرارة وقال لي مبتسماً: "شكراً"، ولم أكن بحاجة إلى أن أسأله عن سبب شكره لي، كانت تنظر إلينا بسعادة شديدة ونحن نتصافح، ثم قررت فجأة أن تشير إلى ساعتها وتقول له مبتسمة: "حكيت له عن الساعة وعن مكانتها لديك"، شعرت أنه ارتبك للحظة حين أدرك أننا لم نكن نجلس فقط صامتين في انتظاره، وربما لذلك شعرت أنه قرر أن يعطيني فكرة أكثر عما أبكاه، فوقف مشيراً إلى القطعة الخشبية التي فجرت بكاءه، وقال لي إنها تعود إلى أسرته، وأنه تم الاستيلاء عليها في عام 1860، وأنه حين رأى اسم أسرته وقبيلته مكتوباً على البيانات المجاورة للقطعة لم يتمالك نفسه وبكى.

بادرت صديقته لاحتضانه فلم يخيب أملها هذه المرة، قلت له إنني أفهم مشاعره جيداً، كنت قد تذكرت أن قصيدة محمود درويش بعنوان (خطبة الهندي الأحمر)، وأن اسم (سياتل) يرد في أحد أبياتها التي لا أذكر منها شيئاً، لكنني لم أكن متأكداً هل سيكون من الصواب أن أترجم له عنوان القصيدة وأشرح له فكرتها، لذلك حدثته سريعاً عن الدكتور منير العكش الذي كتب أكثر من كتاب باللغة العربية عن المذابح التي تعرض لها السكان الأصليون، هز رأسه دون حماس ولم يعلق، شعرت صديقته أنه لم يسعد كثيراً بما قلته، فقررت تخفيف التوتر، وأشارت إلى الشاشة وسألته عما إذا كان يحب أن يشاهد الفيلم التسجيلي الذي تعرضه، وقبل أن تواصل امتداح الفيلم، قال لها إنه يفضل أن يغادر المكان لأنه جائع جداً، وحين مد يده ليسلم علي ويقول لي إنه سعيد بالتعرف علي، وجدت نفسي أبادر لأن أطلب منه أن ألتقط صورة لهما، وحين استغرب الطلب المفاجئ، قلت له إنني أرغب في أن أكتب عنه، ثم أضفت لكي لا أغضبها، أنني أريد أن أكتب عن لقائي بهما، إذا لم يكن لديهما مانع، ولكي يغلق الباب أمام أي أسئلة قد أفكر في طرحها، قال لي بحسم: "لن أسألك عما ستكتبه، اكتب ما شئت، لكن اعذرني لن أجيب على أي أسئلة إضافية، ستلتقط لنا الصورة ثم سنغادر لأننا نقيم خارج سياتل ولا نريد أن نتأخر".

حاولت السيدة أن تخفف حدة ردود رجلها، فقالت لي ضاحكة: "لو كان في هذا المتحف أحد غيرنا لطلبت منه أن يلتقط لنا صورة معاً، لكن صورنا الأول ودعنا نلتقط سيلفي بعد ذلك"، ثم اقتربت من رجلها واحتضنته مستعدة لالتقاط الصورة، لكنه أشار نحو ركن من أركان القاعة، وقال بجدية: "سيسعدني أكثر أن نلتقط الصورة أمام ذلك البساط الذي يعود إلى تراث قبيلتي"، توجهنا إلى الركن الذي علق فيه البساط البديع، ارتمت في حضنه مجدداً، فأبعده عنها قليلاً كأنه يطلب منها أن تكون الصورة جادة، ثم وضع يده على كتفها، واستعدا لالتقاط الصورة، بعد أن نزع النظارة الشمسية التي كان يثبتها في رأسه، وفجأة قال لي بجدية: "ألن تكون الصورة أجمل لو لم أضع يدي على كتفها"، جفلت هي قليلاً، لكنها ضحكت حين فوجئت به يضع يده على أعلى مؤخرتها وهو يبتسم لأول مرة.



بعد أن غادرا القاعة، جلستُ على كرسي يواجه تمثالاً بعنوان (المحارب الهندي) تقول بطاقة بياناته أن عمره أكثر من ثلاثمائة عام، أحالني الصديق العزيز (جوجل) مشكوراً إلى قصيدة درويش الجميلة، فأخذت أقرأها بصوت مسموع في القاعة الخالية كأنني أقرأ ورداً مقدساً أو ترتيلاً مباركاً:

"سنسمعُ أصواتَ أسلافنا في الرّياح، ونُصْغي إلى نبْضهمْ في براعم أشجارنا. هذه الأرْض جدّتُنا مُقدّسةٌ كُلّهَا، حَجَراً حَجَراً، هذِهِ الأرضُ كُوخٌ لآلهةٍ سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا ليإلى الصّلاة.. مشينا حُفاةً لِنَلْمَسَ رُوحَ الحَصَى وَسِرْنا عُراةً لتَلْبَسَنا الرّوحُ، روحُ الهواء، نساءاً يُعدن إلينا هبات الطّبيعةِ، تاريخُنا كان تارِيخَهَا. كان للْوَقْتِ وَقتٌ لنولَدَ فيها ونَرْجِعَ مِنْهَا إليهَا: نُعيدُ إلى الأرضِ أرْوَاحَهَا رُويداً رُويداً. وَنَحْفظَ ذكرى أحبّتنا في الْجِرارْ مَعَ الْملْح والزّيْتِ، كنّا نُعَلّقُ أسْماءَهُمْ بُطُيور الجداوِلْ وكنّا الأوائِلَ، لا سقْفَ بَيْنَ السّماء وَزُرْقة أَبْوابِنَا ولا خيل تأكُلُ أَعْشاب غزْلاننا في الْحُقُول، ولا غُرَبَاءْ يمُرّون في ليْل زَوْجاتِنا، فاتْرُكوا النّايَ للرّيحِ تَبْكي على شَعْبِ هذا المَكَان الجَرِيح.. وَتَبكي عليكم غَداً".

ثم قرأت السلام على (سام) وأرواح ساكنيه، وغادرت المكان.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.