يسقط الحشيش صنيعة الاستعمار!

يسقط الحشيش صنيعة الاستعمار!

14 يناير 2019
+ الخط -
"المجتمع الذي تدفعه إلى الحشيش أثقال سوداء، لا يعجز أبداً أن يتحرر منه بمجرد أن يتحرر من الأثقال السوداء نفسها، والأثقال السوداء هنا ليست على الإطلاق إلا من صنع الاستعمار، وسيظل الاستعمار أبداً يحبسنا في هذا الجحيم ويدفع ضعافنا دفعاً إلى الاستسلام لجنة الحشيش، حتى نطرده دائماً من بلادنا، فنطرد في إثره الشقاء، ونطرد في إثر الشقاء الحشيش ونمحو من أرضنا جنة القرود لنبني جنة الآدميين".

كان هذا ما أعلنته بكل ثقة وحماس مجلة (التحرير) لسان حال قيادة ثورة يوليو، في عددها الثامن الصادر بتاريخ 31 ديسمبر 1952 في ما وصفته بأنه تحقيقها الصحفي الرئيسي، والذي اختارت له عنوان (يسقط الحشيش صنيعة الاستعمار)، وأعلنت أنها تواكب به التشريع الذي أصدرته الثورة ضد الحشيش أو "الداء العضال المتفشي في جسم هذه الأمة"، وبرغم أن التحقيق الذي قدمته المجلة بوصفه انتاج قسمها للتحقيقات الصحفية قد خلا من أي أرقام أو معلومات أو آراء، إلا أن المجلة التي اختارت الكاتب الشاب وقتها صلاح حافظ لكتابة التحقيق، اعتبرت أنه يمثل مساهمتها الفاعلة في تنبيه الأمة إلى خطر الحشيش، ونشرت بصحبته رسماً غير موقع يتخيل غرزة كُتِب على جدرانها عبارة "يسقط الاستعمار"، بالإضافة إلى صورة تظهر ثلاثة فلاحين منسجمين في قعدة حشيش، وصورة أخرى لا علاقة لها بالحشيش تظهر مدمناً يتلقى حقنة وصفتها المجلة بأنها تدخل إلى عروق من يتلقاها سعادة القرود.



يقول صلاح حافظ رداً على الآراء المهونة من خطر الحشيش: "يكفي أن تتسكع أي عين ناقدة في أي ركن من بلادنا لتشهد آثاره الواقعية في ميادين حياتنا، في التجارة حيث تعيش طوائف بأسرها على تهريبه وبيعه وتهيئة الظروف الملائمة لتدخينه، في الصناعة حيث تنهض على أكتافه صناعات كتعبئة المعسل وتقطيع الغاب وإنتاج الجوز الفخار وماكينات لف السجاير. في الفن حيث تعبر عن أجوائه وتترنم بسحره ومواويل لا حصر لها. في الفكاهة حيث تبدأ آلاف النكت القديمة والجديدة عادة برجل مسطول أو بصديقين من المساطيل.وإذا لم يكن مظهراً قومياً ذلك الشيء الذي تنبض آثاره في تجارة بلادنا وصناعتها وفنها وفاكهتها فما يكون المظهر القومي إذن؟".



لكن صلاح حافظ يعترف في موضع آخر من مقاله الذي أُطلق عليه وصف التحقيق، أن سلاح القانون لا يكفي للتخلص من داء الحشيش، لأنه "يشبه إلى حد كبير منجل الجنايني الذي يبتر النجيل تاركاً جذوره تغذي أعناقاً جديدة"، مشيراً إلى أن من يشترون الحشيش ويدخنونه يفعلون ذلك للهروب من أزماتهم الاجتماعية وهو ما يجعل الحشيش بالنسبة لهم نعمة تساعدهم على التخفف من عناء الحياة، مضيفاً بلغته التي لم تكن قد صفت وراقت مثلما حدث حين زادت خبرته بالكتابة: " حقا كيف يعيش الذي لا شيء في حياته غير المرض والعرق والجهد والظلم والمشاكل، إلا إذا اختطف بين حين وآخر لحظات سعيدة، وأية سعادة غير سعادة القرود يستطيع أن يشتريها، وهو لأسباب لا حصر لها محروم من الكتاب والموسيقى والرقص والحب والأمل، إنه كزميله الفلاح يستطيع بالحشيش وحده أن ينسى متاعبه، وأن يحب حياته، وأن يرى طعامه شهياً وزوجته جميلة في عالم ليس فيه إلا ضباب غامض مبهم... والذي يقوله العامل هو نفس ما يقوله كل موظف أو تلميذ أو صياد يتهم بأنه مسئول عن انتشار ضباب الحشيش. لأن البحث عن الخبز يلتهم كل حياتهم ولأن المشاكل المرة الخانقة هي كل ما يواجههم حيثما اتجهت أقدامهم، ولأن الكتب والموسيقى والتنس والرقص والحب وكل المتع الإنسانية النبيلة ليست حقا اجتماعيا إلا لمن يملك المال والفراغ، بينما الحشيش يمنح أصحابه السعادة المطلقة بثمن هم قادرون على الحصول عليه".

ولكي لا تكتفي مجلة الثورة بإلقاء اللوم على العمال والفلاحين والصيادين، قررت أن توجه أصابع اللوم إلى المفكرين والكتاب الذين يقومون بتعاطي الحشيش أيضاً مقررة أنه "حتى الكاتب المفكر في مصر يلجأ أحياناً إلى الحشيش، وكثيرا ما انطفأ كتّاب في ضبابه بعد أن ألهبوا النور والوعي في بداية معاركهم، وحين يتهم كاتب من هؤلاء بأنه خان رسالته، فإنه عادة لا يتردد في أن يصيح: ماذا، هل هذا بلد يؤدي فيه الإنسان رسالة؟ إنك هنا إما أن تخضع، وإما أن تسجن، وإما أن تسكت ولا تفكر، فما الذي تريده مني؟".


في ختام مقاله قرر صلاح حافظ أن يعود إلى إلقاء اللوم على الاستعمار من جديد وتحميله مسؤولية انتشار الحشيش وتدميره للمجتمع قائلة: "وحقا ما نسي الاستعمار يوماً وهو يمتص في مصر حياة العامل والفلاح والموظف، إن شعلة الفكر والفن هي أخطر أعدائه، ومن أجل هذا كانت في مصر دائماً قوانين للنشر وللرأي وللتفكير، ورقابة على الفكر وعلى الفن وعلى الكلام، تخنق الشعلة أولاً بأول، وتطحن الذين يحملونها، وترسم لهم طريقاً محدداً لا يقودهم في النهاية إلا إلى الخيانة إذا كانوا أنذالاً، أو إلى السجون إذا كانوا أبطالاً، وإلى الحشيش إذا كانوا ضعفاء".

وبالطبع، لم يتذكر أحد في مصر بعد سنوات قليلة من نشر هذا الكلام، أن الاستعمار لم يكن المسئول عن فرض الرقابة على الفكر والفن والكلام، وأن أعداء الاستعمار هم الذين تولوا مسئولية خنق الشعلة أولاً بأول وطحن من يحملونها، ورسم طريق محدد يقودهم إلى الاتهام بالخيانة أو الرمي في السجون مثلما حدث للكاتب صلاح حافظ ذات نفسه بعد اعتقاله هو ومئات الشيوعيين بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، أما الحشيش ذات نفسه فلم يعد مرتبطاً في أذهان ملايين المصريين بالاستعمار، بل بالمزاج والروقان وحفلات أم كلثوم والسهرات الخاصة لعبد الحكيم عامر أحد أبرز أعداء الاستعمار، والذي مات الكثيرون من الضحك حين سمعوا نكتة أطلقت بعد مقتله، تقول أنه من فرط محبته للحشيش، أوصى بدفنه في "طُربة".

.....

مائة عام من الفشل في مواجهة المطر
"كان الأسبوع الماضي أسبوع المطر، فقد تفتحت أبواب السماء، وامتلأت الشوارع بالمياه، واستحالت الأحياء الوطنية إلى برك ومستنقعات، فتعذر السير فيها وتعطلت المواصلات الحديدية والكهربائية، واصيبت العاصمة بموجة من الركود سرت عدواها إلى الجو السياسي كما شملت جميع الميادين".

لعلك لولا تعبير (الأحياء الوطنية) الوارد في السطور السابقة، كنت ستظن أنها مجتزئة من تغطية إخبارية حديثة لما تفعله الأمطار بشوارع القاهرة أكبر عواصم الوطن العربي وأقدمها خبرة في مواجهة مشاكل البنية التحتية، وأقدمها في الفشل في مواجهة تلك المشاكل أيضاً، وهو ما تكشفه السطور التي قرأتها، والتي نشرتها مجلة (الإثنين والدنيا) في عددها رقم 552 الصادر بتاريخ 8 يناير 1945، مشيرة إلى ظاهرة تضاعف مشكلات البنية التحتية في ما كان يعرف بالأحياء الوطنية، وهو ما أصبح يطلق عليه الآن (الأحياء الشعبية)، لكن المجلة في الوقت نفسه أشارت إلى الكارثة التي أصابت "ضاحية المعادي الراقية التي كانت أسوأ حظاً من سواها فقد غمرتها السيول وطمرت شوارعها، وطغت على العزب المجاورة مثل عزبة البصري التي نشرت المجلة لها هذه الصورة، ثم وصفت كيف انهارت منازل ضاحية المعادي والعزب المجاورة لها، فخرج أهلوها على وجوههم هائمين وزاد الطين بلّة حرمان الضاحية الجميلة من المجاري، فكان من جراء هطول الأمطار والسيول بتلك القوة، أن طغت القاذورات في بعض الشوارع، مما كان يهدد بتفشي بعض الأمراض".



في موضع آخر، نشرت المجلة تغطيتها لما جرى لسكان المعادي والمناطق المجاورة لها تحت عنوان (السيول والأمطار ماذا فعلت بهم؟)، والتي تضمنت الأخبار القصيرة التالية:

"ـ عندما دهمت السيول سكان العزبتين الملحقتين بالمعادي، بادروا بالهرب قبل أن تسقط عليهم المنازل، وبعد أن قطعت احدى العائلات نصف الطريق وسط مياه الوحول، تذكرت الأم أنها نسيت ولدها الصغير، فعادت تبحث عنه فوجدته عائما على وجه الماء وقد تشبث بزجاجة اللبن "البزازة" ولولا ذلك لغرق!

ـ فوجئ صول نقطة المعادي بالمياه تحيط به من كل جانب، وقد طغت على النقطة وملأت مدخلها، ورأى أنه مهدد بالغرق، ولم يكن في النقطة سواه، وحاول الاستنجاد بالتليفون فكان معطلا وأخيرا أخذ يستغيث بالبوليس.

ـ كان أحد اللصوص يهم بالسطو على أحد منازل عزبتي المعادي اللتين أغرقتا، ولما شاهد تدفق السيول عدل عن السرقة وعمد إلى إيقاظ أصحاب المنزل قبل أن يسقط المنزل عليهم، ثم ركن إلى الفرار.

ـ عندما وصلت مضخات الحريق إلى مجرى السيول بالمعادي، طغت السيول عليها وردتها إلى الوراء ثم غرزت عجلاتها في الوحول فعادت أدراجها.

ـ كان كامل صدقي باشا رئيس ديوان المحاسبة أكثر الناس اهتماماً بالسيول التي طغت على عزبتي المعادي، لأن العزبتين المذكورتين من أملاكه.

ـ ظهر أن غلطة غير مقصودة هي التي أدت إلى كارثة المعادي، فقد كانت هناك ترعة بقرب الجبل بمثابة مصرف لمياه السيول فجاءت الشركة ورأت الافادة من المساحة التي تشغلها فردمتها وزرعت مكانها أشجاراً.

ـ بلغت خسارة أحد المحلات العامة في ليلة رأس السنة حوالي خمسة آلاف من الجنيهات، إذ استعد على أتم صورة بالزينات والمأكولات وغيرها، وإذا الامطار تهطل وتنفذ من الخيام فاستحالت إقامة الحفلة، وكانت تلك الخسارة بعد أن كان مقدراً أضعافها أرباحاً، وتقدرون فتضحك الأقدار".



لم تلق المجلة باللوم على الطبيعة فيما جرى لسكان القاهرة وضواحيها، بل وجهت اللوم إلى المسئولين الذين كشفت الأمطار عن مساوئهم والمآسي التي تسببوا فيها، وهو ما عبرت عنه المجلة بقولها: "فلسنا ندري كيف تخلو ضاحية كهذه من المجاري، ولسنا ندري كيف تظل عاصمة القطر ـ بل عاصمة الشرق ـ بغير مجلس بلدي رغم كثرة ما سمعناه عن مشروعات وضِعت منذ سنوات، فإذا المسألة لا تخرج عن دائرة الكلام وبس! فلعل نزول المطر بهذه الصورة التي لم يسبق لها مثيل يكون درسا قاسيا للذين يقفون في وجه هذا المشروع وأمثاله، والذين يتلكأون في تنفيذه، فيعملوا على سرعة إخراجه إلى حيز الوجود".

منذ أن نشرت المجلة تلك السطور، شهدت القاهرة بدل المجلس البلدي مائة مجلس ولجنة وهيئة، وبدل المشروع الواحد ألف مشروع ومشروع تم تمويلها من جيوب المواطنين ومن نفحات الجهات المانحة، وشهدت أيضاً مئات اللواءات والعقداء والعمداء الذين تولوا مناصب الإدارة المحلية فيها معلنين قدرتهم على الضبط والربط والشكم، ومع ذلك لا زالت القاهرة وغيرها من المدن المصرية، تقف في مواجهة الأمطار الغزيرة عاجزة مرتبكة تسأل الله الستر والسلامة.

.....

الفقرة الإعلانية

من أمتع ما يمكن أن تقرأه خلال تصفحك للصحف والمجلات القديمة هو الإعلانات الطبية التي كانت تنشرها، والتي ستنبهك إلى ما قد تأخذه باستخفاف من تطور علمي وطبي مدهشين، لكنها في الوقت نفسك ستنبهك إلى ما لا زلنا نعيشه من آفات اجتماعية وعقلية لم تتغير أبداً، وهو ما ستلاحظه في هذه الإعلانات التي نشرت في أعداد متفرقة من مجلة (المصور) الصادرة خلال سنة 1928:

خذ عندك هذا الإعلان الذي يبشرك بأمل جديد للمصابين بأمراض الجلد، هو مرهم الزمبوك:



وإذا كان اسم الزمبوك سيثير قلقك، فيمكنك بدلاً من أخذ الزمبوك أن تستخدم هذا المرهم العجيب الذي يعالج كل شيء من الروماتزم إلى البواسير:



ولعلاج السعال والرشح والنزلات الشعبية وجميع الأمراض التي تصيب أعضاء التنفس والهضم أيضاً، حتى لو ظننت أن كلاً منهما ينفصل عن الآخر، عليك بهذا المستحلب:



وإذا لم يبد لك المستحلب السابق مقنعاً، يمكن أن تلجأ إلى مداواة البرد بطريقة أخرى تجدها في هذا الدواء الموجود بجميع أجزاخانات القطر المصري والذي يحمل على غلافه صورة رجل يشبه الفيلسوف نيتشه، لكن الدواء نفسه يحمل اسماً مختلفاً:



من فئة الأدوية العجيبة التي تعالج أكثر من مرض في نفس الوقت ستجد هذا الدواء العجيب الذي يمكن أن تجربه وتقارن بينه وبين المستحضرات الأخرى:



أما لعلاج أمراض الجلد والزهري والمجاري البولية وضعف الأعصاب ستجد أحدث وسائل العلاج لدى هذا الطبيب الذي لا تحتاج لمعرفة أكثر من اسمه الأول:



لعلاج اضطرابات المعدة لديك أكثر من طريقة، الأولى هذه الطريقة التي تتوفر في شكل مسحوق وفي شكل أقراص أيضاً:



وإذا كنت تقلق من العقاقير ذات الأسماء الغربية، وتفضل العقاقير التي تحمل اسماً شعبياً مباشراً، فماذا عن هذه الشربة التي تخلصك من 75 دودة في نفس الوقت:



أما إذا كنت تعاني من ألم الصداع ومن الدوخة ووجع الظهر، فلن تجد أفضل من هذا السفوف الذي شهدت به المدموازيل لندا، التي لا يحتوي الإعلان على أي تعريف بها، لا هي ولا عايدة صاحبة السفوف، مما يعني أنهما كانا وقتها أشهر من أن يتم تعريفهما، أو أن مساحة الإعلان أو خُلق مصممه كانا أضيق من ذلك:



كفانا الله وكفاكم شر المرض، وبارك لنا ولكم في تقدم الطب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.