الكتكوت الفصيح

الكتكوت الفصيح

13 يناير 2019
+ الخط -
مع خروجه من البيضة، تسرع الأم إلى ضمه وشمه، ثم تحاول التعرف إلى مهاراته وكيف سيواجه الحياة، وتدخل نوبة من التوتر والقلق على مستقبل صغيرها. بعد وصلة طويلة عريضة من "السرحان"، تتنهد الأم وتصرخ: وجدتها! وجدتها! إن الطريقة المثلى للاطمئنان على مستقبله أن أقيس معدل ذكائه "الآي كيو".

لتبدأ معاناة الأسرة والصغير من المهد إلى اللحد، لا قدر الله، إن كان معدل ذكاء الصغير متوسطاً أو متدنياً، وتؤكد الأم قول جداتها الخالد "الديك الفصيح من البيضة بيصيح"، وعليه فإن الكتكوت لا بد أن يكون فصيحًا وأن يحطم الرقم القياسي لـ"الآي كيو"! يغيب عن الأم أن الكتكوت يحتاج لما هو أهم من "الآي كيو"، يحتاج لعناية ورعاية تفوق اهتمام الأم بالموبايل والموضة والسيارة، يحتاج لتفرغ أمه وليس لتفرغ الخادمة والشغالة، ويحتاج لتحفيزه والإطراء عليه لا أن يُبكَّت وتقرع له العصا في سنواته الغضة الخضراء.

قد يتأخر نطقه أو استيعابه وتحصيله، وربما يتخلف مستواه الدراسي عن أقرانه؛ فلا يتعين على الأم أن تهمله، ولا أن ترمي طوبته وتيأس منه وترقع بالصوت الحياني "عليه العوض ومنه العوض"، بل عليها أن تدرك عظمة رسالتها، وأنها تبني شخصية ولدها في هذه الفترة بما يفوق التصور، وأن وليدها بعد سنوات قلائل سيخرج من العش، سيطير بعيدًا ويعيش وحيدًا يصارع الحياة؛ فإن أرضعته الثقة والتحفيز والمثابرة، سيواجه كل التحديات ويتغلب على الكثير من الصعوبات.


بينما لو صبَّت الأم اهتمامها على "الآي كيو"، وتنفست الصعداء لتحقيقه درجة ترضيها، ثم اعتمدت على ذكائه بمفرده؛ فإنه في الغالب لن يصمد أمام رياح الحياة العاتية، وقد يحمل أعلى الشهادات لكنه يبقى هشًا! "الآي كيو" مقياس لجودة تعاطي حياة الابن والابنة مع الأمور، ومؤشر لقدرتهما على التكيف مع بعض الصعوبات، لكنه ليس كل شيء. يدمي القلب أن نقرأ عن طبيب ينتحر، ومهندس ينهي حياته بيده، وشاب مثقف يبتلعه شبح الاكتئاب، ولربما تغلب المرء على مشاكله وقهر الظروف القاسية إذا وجد الحب والتحفيز، إذا صادف من يحتويه ويحن عليه.

أن يكون ابنك الكتكوت الفصيح؛ "فبها ونعمتْ"، لكنه ليس شرطًا أن يكون كذلك، هذه ليست فزورة من فوازير عمنا بخيت بيومي، فأنت رأيت الكتكوت الفصيح، ماكولي كولكين، بطل فيلم Home Alone ثم شاهدته بعد سنوات وما آلت إليه حياته. لم يواصل على الدرب المتوقع، بل سقط في شراك الإدمان، لو أنه ألفى صيانة واهتماما لكان له شأن آخر، ومهما يكن من سبب فالذكاء وحده لا يكفي، والتجارب ميدان يصقل العقل ويشحذ الهمم؛ فإن وافقت الذكاء همة بلغ المرء مأربه، وإن صادف الذكاء خمولًا فلا طائل منه.

وهذا فتى نعته أقرانه بالغباء، وصدق أنه كذلك، وتحول إلى كتلة من العصبية والعنف، ولاح مصيره شبه مؤكد وأن مأواه السجن ولو بعد حين. لم ترتضِ الأم لولدها هذا المصير المؤسف، وأدركت أن عطفها كفيل بتخليصه من العقدة النفسية التي مُني بها، ووضعت له منهجًا يصقل عقله ويرفع ذكاءه؛ فألزمته قراءة كتابين أسبوعيًا، ويا لها من وصفة سحرية، وما أعظمه من علاج ناجع وزاد نافع! كتابان أسبوعيًا أي حوالي 104 كتب في السنة الواحدة، ليصبح الغبي من أشهر أطباء العالم؛ بنجامين كارسون.

لا تتصور أنني أغفلت دور الأب؛ فالأب الأستاذ الأعظم والمعلم الأول للأبناء، لكنه قد تدفعه طاحونة الحياة للسفر، وينحر شبابه بيديه ليسعد أولاده، ولذلك تكون الأم هي الأقرب إليهم، وتقوم بدوري الأب والأم في غياب الوالد.