شامة يا شام

شامة يا شام

12 يناير 2019
+ الخط -
حارتنا ضيقة جدًّا حتى أن جميع أهالي الحارة يعرفون بعضهم جيّداً، طلة واحدة من الشرفة ثم السيدة إخلاص تريد بقدونس، تصرخ لزوجها الملقّب بأبي العز من على الشرفة، ولكن أبو العز لا يفرّق بين البقدونس والكزبرة، تغضب منه كعادتها وهو يتمتم "المزوج طالع عتال ونازل زبال".

تتأفف إخلاص وتنادي لابن الناطور الذي يرفع بنطاله ويركض انتظاراً للبقشيش، يقف بائع الخضار مع عربته وسط الحي وينادي "إذا كنت من عائلة طيّار انزل واشتري خيار، إذا كنت من عائلة قدورة انزل واشتري بندورة، باطيطو يا باطاطا..."، يقف ابن جيراننا المعروف بالزعيم على الشرفة المقابلة، يسحب من سيجارته منتظراً مرور ثريا بفستانها الفضفاض القصير. أما الكابتن راجي فمن الواضح أن لديه مباراة انتقامية ضد فريق الحارة المجاورة، يرفع منشفته "المايك" التي يهتم بها كأنها ابنته عن حبل الغسيل ويضعها على كتفه، يقول إنها "مايك" أصلي.

أبو الشوق يجلس على كرسي القش وبشكل متواصل يشتم بصوت خفيض ومسموع لأن أبو العبد فتح بقالية "مترين بمتر" في وسط الحي ووضع ورقة أن الدين مسموح حتى آخر الشهر، سمّاها ميني ماركت سلطان.

لا تغيب عن السمع خشخشة الراديوهات ولا ينكتم صوت المذيع على المحطة التلفزيونية الأرضية بتلك النبرة المنذرة بالخطر "أربعون قتيلا ومائة وعشرون جريحاً في غارة استهدفت..." يصرخ الرجال في مقهى الحرية "يلعن..." بيوت حارتنا إسمنتية باستثناء بيت جواد الذي استحدثه مؤخراً بعد عودته من سفر دام عشر سنين، جواد كما يُشاع في الحارة أنه كان عميلاً يعمل لصالح العدو، "من أين لك هذا..."، هذه الجملة يقولها العم صالح وهو يسبّح بمسبحته فتصدر صوتاً عند انزلاقها من يده، الآخر يقول إنه لا يمكنه أن يكون هو العميل الذي يبحثون عنه، من المحتمل أنه نهب أو كان يعمل في الخارج بما هو محرّم، "ما جمع أحد مالاً إلا من شح أو من حرام".


شرفتي الصغيرة التي أقف عليها كي أتسلى بأخبار الحارة تقع في الطابق الأول من المبنى وتطل على شرفة الأرملة "زينة" في المبنى المقابل، استشهد زوجها وهو على جبهة القتال ضد العدو منذ فترة قصيرة. لا أخفي بأنني أنتظر طلّتها لتزيل الغسيل أو تنزل سلتها القش لغرض ما، أشهد أن طلة شرفتي لأروع من طلة البحر، فهناك بحر بمدى مفتوح بين رقبتها وصدرها، تسرح فيه، تسبح فيه، بل وتذوب فيه، صدرها يبدو شهيًّا بزر قميص بيجامتها الأعلى المفتوح رغم صغر حجمه.

أذكر في صبيحة يوم من الأيام عندما كنت صغيراً، أظن أنني كنت عندها في التاسعة من عمري، يعني قد مر على الحادثة تقريباً إحدى عشرة سنة، ذهبت مع أمي إلى بيت زينة، وقد اجتمعت نسوة الحارة في بيتها لتهنئتها بمولودها الجديد، جلستُ إلى جانب والدتي بعد أن نلت من النساء قبلات كثيرة، كرهتها في ذلك الوقت ولكن اليوم أتمنى لو أعود إلى أحضانهن وأندم على تلك اللحظات التي لم أعرف قيمة لها. تلك التي تجلس مرتدية تنورة سوداء قصيرة تضع ساقها فوق ساقها الأخرى وتهز بها فيرتج فخذها وتخبرهن عن معاناتها عندما أنجبت ولدها الأول، والأخرى تردد كلمة "الواسطة" وتخبرهم أشياء عن زوجها الأول الذي طلقها وتقول إنه يختلف عن زوجها الثاني، لم أفهم كلامها كثيراً ورحت أفكر بأبعاد هذه الجمل.

يتهامسن ويشرن إليّ بحواجبهن، وأمي تلمس شعري وتضحك، أما زينة فقد أنزلت قميص بيجامتها كي ترضع المولود الجديد، وأما أنا فقد تسمرت عيناي على ذلك المدى الساحر المفتوح، وأخذت أصوات ثرثراتهن تبتعد عن مسمعي رويداً رويداً، أغوص في ذلك المدى وأتخيل نفسي بدلاً من ذلك المولود، لا أنكر أنني شعرت ببعض الغيرة والكثير من الأشياء التي تدغدغني دون أن أدرك ماهيتها.

تقلّبت كثيراً وقلت لأمي إنني مللت وأود العودة إلى المنزل. فتفرقت أصواتهن: "لماذا؟" "ييي"، "حبيبي"، "خللي إمك قاعدي"، "عاقل غازي"... وما إلى ذلك من كلام النساء. أما "تونت زينة" كما كنت أناديها في ذلك الوقت، فقد وقفت أمامي وابتسمت لي، ذلك المدى المفتوح أصبح أمام عينيّ تماماً، لم أعد أثرثر وأتكلم مع أمي بشأن العودة إلى المنزل، شعرت وكأن جسدي مخدّر، وفجأة شدت رأسي إلى صدرها وغمرته، انتشيت من قعر جلدها الرطب رائحة ندية لا أنساها ممزوجة بعطر الصابون البلدي. شدتني من يدي كي أقف فالتصق جسدي بجسدها وهي توجه كلامها إلى النساء: "لا تخجلوا للصبي! شاطر غازي... تعال هناك سلة تحوي ألعاب كثيرة، خذ منها ما تشاء والعب"، انحنت وداعبت خدي ثم طبعت قبلة عليه، فمي بقي مفتوحاً وعيناي ذبلتا من سكر اللحظة. كنت أنصت إلى أحاديثهن وقهقهاتهن وأنا ألعب، وكان لديّ حشرية غريبة لمعرفة تلك الأشياء المتعلقة بالنساء، وأسئلة كثيرة عن عبارات يتغامزن عليها، واكتشافات جديدة عن جسدي الصغير.


هكذا كانت أمي تصحبني معها أينما ذهبت، تخاف أن تتركني وحدي في المنزل وتخفي عنّي أشرطة أفلام الفيديو ولكن عندها لم أكن أعرف سبباً لذلك، ولم أكتشف تلك الأفلام إلا عندما أصبح عمري ستة عشر عاماً، كانت عبارة عن أفلام مصرية تحتوي على قبلة هنا، قبلة هناك، رقص شرقي، ولكنها أفلام عادية، أو ربما أصبحت عادية بالنسبة لي بعد أن تعلمت من النساء واكتشفت كل خبايا كلامهن، حتى أصبح لديّ ميل لاكتشاف ومعرفة المزيد عن تلك الأمور، وحتى ذلك السن بقيت أطلب من أمي أكل العجين وذلك كي ترسلني إلى جارتنا زينة لاستعارة "الشوبك"- أداة العجن، وعند كل استعارة أنال قبلة أو غمرة، هي تلك الغمرة التي أحببتها أكثر.

أقضم أظافري وأنتظر خروج زينة، امرأة قصيرة القامة وضعيفة جدًّا تبدو كلعبة شهية، شعرها العسلي يلمع مع بشرتها البرونزية، وعيناها تحتار في تمييز لونهما، فيتبدد اللون في الشمس أو بحسب لون الثياب التي ترتديها.

ظهر ابنها، "ابن الذين... هذا الذي كان طفلاً يرضع"، لم أتمكن من فهم المسألة، أتخيل وجوده مع زينة التي تكبرني بثلاث عشرة سنة، ما زلت أغار منه في بعض الأحيان. لوّح لي من بين قضبان الدربزين ومد لي لسانه، رميت السيجارة من الشرفة وأنزلت قدمي، رفعت حاجبي ونظرت إليه بغضب، كدت أسأله عن والدته التي تأخرت على غير عادة مع أن الغسيل ما زال هو ذاته معلقاً من صبيحة يوم أمس.

احترت في أمري لقد مر موعد قهوتي الصباحية ومر موعد إزالة الغسيل، أتثاءب باستمرار وأراقب في كل الاتجاهات. وأخيراً، قررت وضع الركوة على النار والعودة إلى الشرفة حتى تغلي المياه، لن تتمكن زينة من إزالة الغسيل بهذه السرعة. مر الوقت ونسيت الركوة فهرعت إلى المطبخ، فإذا بالمياه قد تبخرت منها والركوة تحترق. أضع فيها ماء مجدداً، أخرج إلى الشرفة ثم أدخل لتحضير القهوة ثم أحمل كرسي من المطبخ وأضعه على الشرفة، ثم أدخل وأصب القهوة في الفنجان فيقع الفنجان من يدي وينكسر "خير اللهم اجعله خير"، تذكرت أنه نهار الأربعاء، "الأربعاء النحس"! تشاءمت من ذلك النهار الذي لن يمضي على خير كما اعتقدت.

تأخرت والدتي في زيارتها الصباحية في إحدى بيوت الجيران، للمرة الأولى أشعر بالغربة في هذا المنزل، بعد غياب زينة، والتأخر عن الأحاديث التي تحملها والدتي معها رغم انزعاجي من سؤالها المتكرر "ماذا تريد أن تأكل على الغداء غداً؟"، وعليّ أن أقوم بتمسيح المطبخ بنفسي.

فكرت قليلاً وأنا أقوم بتمسيح الأرض، بالتأكيد أن نساء الحارة يجتمعن في بيت زينة وأمي هناك أيضاً، شعرت بالاطمئنان وصرت أراقص الممسحة وأغني بنشاز "زينة الحلوة زينة، عيني بتسأل عن زينة قلبي بيقلي وينا... ما تنتحري يا زينة من صوتي يا زينة..."
خشخش الميكروفون في الجامع، جمدت في مكاني وتخيلت جميع أهالي الحارة متصلبون في أماكنهم دون حراك وكأن الزمن توقف، كنت أعلم... كنت أعلم أن هذا النهار لن يمر مرور الكرام، فجأة ظهر صوت إسماعيل وهو يطلب من الأهالي التوجه إلى المثلث في الساحة فهناك منظمة تابعة للأمم المتحدة سوف تدخل إلى الحارة بعد ساعة برفقة صحافيين من أجل توزيع المؤونة والبطانيات، وذلك بعد صدور قرار أمني بحظر التجول في البلدة وإقفال المحال التجارية بسبب تهديد العدو بقصف المنطقة.

ارتحت قليلاً بعد سماع هذا الخبر ولم أعر موضوع القصف أي اهتمام فهذه حال البلاد والعدو طيلة سنوات الحرب لم يقترب من حارتنا، الظاهر أنه لم يتنبه لها فهي بالكاد عبارة عن شارع أو شارعين لا أكثر، والأهم من ذلك أن "سمعة" لم ينعِ وفاة زينة... أو أمي... خرجت إلى الشرفة أراقب أهالي الحارة وهم يهرولون بخفة، لبسوا ثياب العيد المغسولة والمكوية، الشباب وضعوا الـ"جيل" على شعرهم حتى التصق بطريقة مستقيمة، ضجيج وعجيج في الحارة، وفجأة ركض الأطفال بثياب غير متناسقة وراحوا يقفزون أمام السيارات الفخمة والجيبات الموشومة بشارات خاصة بالمنظمة. كل ذلك وزينة لم تظهر ولم يظهر ابنها بعد ذلك.

فنجان آخر من القهوة على الشرفة وأنا محتار بين الضحك والبكاء على أمثالي من الناس، وتوقهم إلى الحياة رغم الفقر والعوز والحرب، يتشبثون بأي شيء يقيهم المرض والموت. شممت رائحة تتكاثر، أشتمها وأفكر أي رائحة تلك، تشبه رائحة حريق، بل إنها رائحة حريق! لحقت الرائحة في البيت، تبتعد وتقترب، فإذا بها تفوح من المطبخ، نسيت النار مشتعلة على الغاز، الستارة تحركها نسمات الهواء الداخلة من النافذة المحاذية للغاز، والستارة تحترق! ارتبكت! أحاول إطفاء الغاز فإذا بي أشعل العين الأخرى وتنطلق رائحة الغاز، أكبس على العين ثم أكبس على الأخرى ، حتى أطفأت ساعة قارورة الغاز كليًّا، عبّأت إبريق الماء ورحت أرش الماء على الستارة، لحسن الحظ أنني لحقت الكارثة قبل أن تقع.
كارثة تلو كارثة ولكن لا بأس على الأقل لم أحترق بعد، ما زلت حيًّا، ما زلنا أحياء، لا يزال أهالي الحارة بخير، كل شيء كل صوت وكل إنسان كما هو لم يتغير شيء، سوى غياب تلك الشهية عني، تلك التي جعلتني في عمر صغير أشتهي النساء وأعرف معنى الجمال، ازداد في داخلي الفضول لاكتشاف المرأة، عرفت الكثير منهن ولكن تعود صورة زينة إلى ذهني بسرعة، فهي المرأة الأولى التي حرّكت مشاعر لم أكن أعرف معنى لها.
عدت إلى الشرفة، وأصررت على الانتظار، رأيت امرأة قادمة وهي تحمل البطانيات على كتفها وكيساً أبيض في يدها، تنظر ناحيتي بعين واحدة وتغمض الأخرى من نور الشمس، وتبتسم بصف أسنانها الاصطناعية الناصعة البياض، ثم تكلمت بصوت عالٍ: عرفت ماذا سوف أطبخ لنهار غد وبعد غد وبعده! وقهقهت. ركضت على درج المبنى كي أساعدها. مشيت ببطء نحوها وأنا أحدق بها، ماذا؟ لمَ تنظر إليّ هكذا؟ هيّا خذ عني. نسيت الأغراض للحظة وسألتها أين كانت، غضبت من سذاجتي وصرخت في وجهي، كتفي آخ كتفي "يا بلا مخ" خذ الأغراض عني. حملت الأغراض وكررت سؤالي، حدثتني كيف وقفت تحت وهج الشمس وكيف تدافع الجميع للحصول على المؤونة وكادت أن تقع أرضاً، وأنّبتني لعدم ظهوري على المثلث ولكنها لم تجب عن سؤالي. دخلنا إلى المنزل وهي تخبرني عن أحاديث النساء وأنا أنتظر أن أسمع منها اسم زينة ولكن لم يكن اسمها بين قائمة الأسماء الطويلة والقصص الكثيرة التي أخبرتني بها. نفد صبري ولم أستطع السكوت أكثر: وماذا عن جارتنا زينة؟
عاد صدى السؤال إليّ، سمعت دوي انفجار كبير استيقظت في هلع من أمري، المبنى يهتز والزجاج انفجر من قوة ضغط الانفجار، حجارة تُرشق على ظهري، العتم يغطي المكان، ماذا عليّ أن أقول؟ امرأة تدير ظهرها لي، تتكور على ذاتها مثل خلخال في كعب الشيطان، ولكن لا بأس لا أجمل من العتم وامرأة تنام في الزاوية المضاءة من المدينة تدير لي ظهرها عارية، لأول مرة اكتشف كم هي جميلة وهادئة حارتنا من ثقب كبير في جدار تتراقص بقايا الشرفة منه، وقطعة قماش معلقة وملطخة بالدماء كأن الحارة جهة الريح التي دمرتها، وكأن أصابتها لعنة امرأة.
قالوا إنه بين رقبتها وصدرها ندبة تتصل بشامة ملاصقة لنهدها تشبه خريطة مدينة.

دلالات

0C9109E2-A629-46B5-B746-244491B381F4
مهى عبد الكريم هسي

كاتبة لبنانية... أكمل دراسة الماجستير في الإدارة التربوية، وأدرس الأدب العربي. لدي رواية بعنوان "القصر المهجور"، وأخرى بعنوان "بين الرصاصة والقلب.. نبضة".

مدونات أخرى