حميد... وأحلامه المؤجلة!

حميد... وأحلامه المؤجلة!

30 سبتمبر 2018
+ الخط -
تعلّق حميد بالكثير من الأصدقاء، وكانت تربطه بهم علاقات ود ممزوجة بالكثير من النبل والشهامة، ولم يسبق له أن دخل في معترك أو اصطدام مع أحد، أو اضطرّه الواقع إلى أن يكون لمواقفه بعدٌ آخر. وإنما كان في علاقته مع من يلتقيهم، من أصدقاء وأقارب كل الود، وطالما بادر إلى قول الحقيقة مهما كانت قاسية، شارحاً ذلك إلى معارفه وبصدق، بعيداً عن الترّهات والتعالي والأستذة الكاذبة التي يرفض التعامل معها، منذ نعومة أظفاره!

فكّر ملياً، بعدما تمكّن من استعادة بعض القضايا والتساؤلات التي كان لها وهجها، بالنسبة له، ما دعاه إلى أن يوقف هذا التحدّي الأرعن، وإن دفع بكل ما يدّخره، لحل أي معضلة ما قبل أن يتسع أوارها ويصير من الصعوبة حلحلتها.

أراد حميد، وهو المتعافي مادياً، أن يكون فريسةً سهلةً، ولقمةً سائغة بفمِ الكثير من معارفه، الملآن بالجهل والحقد والكراهية، ويدركون تماماً علاقاته الراسخة معهم، واحترامه الزائد لهم، ما جعلهم يدركون مدى أهمية هذه العلاقة، وعدم الوقوف بوجهه، أو الضحك المباشر منه، لأنه يعرفُ تماماً ما يقصدونه بمجرد نظرات الخلسة الموجهة إليهم من قبله، وحاول مراراً أن يغيّر بعض ما يجول بخاطره، لجهة رؤيته المنطقية التي يجدُ فيها بعض التحدي.

تمكن همَّام صديقه الوفي، أن ينعم بعلاقات قوية، هو الآخر، لها طابع الديمومة مع المعنيين، إلّا أن استمرار هذه العلاقة المتينة غلبها فتور متوتر، ولا سيما أنه تكشّفت لحميد صور مؤسية، على حين غرّة، ما دفع به إلى إسقاط هذه العلاقة وبترها من جذورها التي استمرت سنوات!


همَّام، وإن كان له حضوره وهيمنته على الكثيرين، فوق ذلك هو يملك إمكانات مادية جيدة يحسده عليها بقية أقرانه، ولا سيما أنه تربطه علاقات لها بعد آخر مع كبار المسؤولين في مدينته الوردية الساحرة.

وفي يوم ما، استعادت مدينته مكانتها، بإقامة مهرجانات متعدّدة استطاعت استقطاب كبار الكتّاب والمفكّرين. هذه المهرجانات أضافت للمدينة مكانةً متميّزة بين أخواتها بقية المدن، رغم ما أصابها من يأس في عدم مقدرتها على استضافة أمثال هذه المهرجانات الأدبية، التي تتطلب إقامتها دعماً مادياً مجزياً، فضلاً عن التحضيرات التي تلزمها متابعات جادة لجهة النجاح في رعايتها وتنظيمها. وهمَّام، لا يزال يحاولُ، من خلال معارفه الكثر، الفوز بكسب ود ممن له علاقة بالأدب والصحافة، في هذه المدينة التي تزاحم فيها أعداد الصحافيين الذين يغلب على أعمالهم طابع الغيرة، والضيق. ومنهم كثير ممن دخل في هذا المعترك، وهو لا يعرفُ ألف باء الصحافة، والهدف ابتزاز الناس، وأكثر ما يرمي إليه همام هو الوصول إلى قلوب المسؤولين، والأصدقاء المحبين بأسلوبه المنمّق، وضحكته التي تُرافق تحركاته، المرسومة بصورة كاريكاتيرية، ما يضطرهم إلى سماع ما يدلي به من أفكار، وإن كان مبالغاً فيها، لأنه لا مناص من تصديقه والتقرّب منه وكسب وده، لأنه على علاقة حميمية، حسب ما يدعيه مع والي المدينة، وهو الذي يملكُ المال، فيما زملاؤه، وعلى كثرتهم، تراهم في فقر مدقع.

أقصد بذلك زملاء المهنة التي ينتمي إليها، جاهداً ومحاولاً إفراغ جعبتهم من أي مكسب يحاولون الوصول إليه، أو الفوز به، وهو دائم البحث عن الجديد، ويفاخر بثناءات، وعلاقات لها أوّل وليس لها آخر، بينما زملاء مهنته ما زالوا يبحثون عن معين لهم، ويحاولون ولا يزالون، الفوز بلقب جديد، إلّا أنّ محاولاتهم ظلت مشوبة بالفشل، ورغم سلوكهم الطيب لم يشفع لهم الفوز بنصف المكاسب التي سبق أن نالها.

المنافس الوحيد لهمَّام ماهر، ورغم دفعه بهذا الاتجاه الكثير من الوقت والجهد، بقي يصرخُ ويئن متأججاً حيال زميله الذي يعرفُ من أين "تؤكل الكتف"، مستفيداً من علاقاته، وحنكته لعلّه يتمكن من تحقيق أي مكسب مادي، محاولاً أن يجنيه من كل متابعاته وأحلامه، وجهده المضني الذي قضاه متعثراً دونما أي فائدة تُرتجى.

في كل مرّة يحاول فيها حميد أن يُترجم روح العلاقة والمحبة التي يكنّها لهمَّام باللقاء معه، وزيارة مكان عمله الذي تحوّل إلى ملتقى لكبار المسؤولين، في مدينته الحالمة بموسم حصاد، ولمرّة واحدة، بعدما صار الفلاحون يسترجعون بذكرياتهم أحد المواسم السابقة، حين فاضت حقولهم بالخيرات، لا يزال الموسم الحالي دون الطموح، مع ما رافقه من هطولات مطرية خجولة غسلت شُحَّ النفوس، وشوارع المدينة المعتِمة التي تنتظر "زخّات" المطر مع أنه فات ما فات من وقت للفوز بحصاد وفير، يريح نفوس وأفئدة أهلها الطيبين الذين يُمارسون أنشطتهم وترحالهم مع رعاة الأغنام بحثاً عن الكلأ، وبعدما أحبط حيلتهم الجفاف، وأحال أحلامهم المؤجلة أبواق عزاء، وحاجات ملحّة رسمت الطريق أمام شبابها، ما اضطر الكثيرين منهم إلى الهجرة، والبحث عن كنوز دفينة في بلاد اﻻغتراب، دفعت بهم إلى البحث عن أحلام ميؤوس منها، وما أقساها، مع غياب المواسم الزراعية التي يعتمدُ عليها أهالي المدينة، بصورةٍ عامة، وهذا ما دفع بهم إلى أبواب الغربة، والترحال بعيداً، ما جعل حميد يتغلب على مشاعره ويزيد من محاولاته، وأخيراً فوزه بتأشيرة حلم إلى ما كان يرمي بنظره، وسعد أخيراً بها.

وأخيراً تحقق حلم حميد نتيجة محاولاته المتكرّرة والجادة، التي كان يدفع لقاء ذلك ما بحوزته من المال من أجل الفوز بتأشيرة سفر إلى حيث يرغب، وهذا ما كان يراوده منذ اليفاع.

محاولات الركض، والوقوف أمام أبواب السفارات في العاصمة التي تبعد عن مدينته الصغيرة مئات الكيلومترات، أخذت من وقته الكثير، إلّا أنَّ كل هذا لم يأتِ عن عبث، فكان تواقاً إلى تحقيق رغبة دفينة لازمته أمام زملائه البقية، الذين ظلوا يمارسون هوايتهم في مراسلة الصحافة المحلية بعيداً عن أي رغبة حقيقية بها، وإنما لمجرد الركض وراء مكاسب مادية، وبدون إقناع الآخرين الذين يعرفون ما يرمون إليه، وأخيراً باتوا يدركون ما الهدف من وراء كل هذا الركض غير المبرّر حيال اقتناص فرصة الوصول إلى مكانة ما، أو منفعة مادية تزيدهم غنى حيال العمل الذي يقومون به، وهو هاجسهم الوحيد، والرغبة في الاستمرارية في بلاط صاحبة الجلالة التي تسابق إلى الدخول إلى حجراتها لفيف من المتطفلين، وأقنعوا كل من حولهم، فيما ظلت الساحة مغلقة أمام من يلامس الحقيقة ويدافع عنها، ويعالج مشاكل الناس ويقف عليها..

وحدهم صحافيون شباب، ومثالهم حميد الذي كان يمارس عمله بشغف وإمتاع حقيقي، وهو الذي ساهم بمعالجة الكثير من القضايا والمسائل التي تمس حاجة الناس وإظهارها للعلن، على الرغم من أن ذلك كلفه مواقف قاسية، ومنها دفع الكفالات المالية لدور المحاكم لقاء خروجه من السجن، ورفع الدعاوى القضائية ضده بهدف الإساءة له ولسمعته، فضلاً عن قول الحقيقة التي أبى إلا أن ينطق بها، واستمر في صراحته، التي كان يتهرّب زملاؤه من قولها، وعاد من جديد، وبثقة مطلقة إلى حضن الصحافة معشوقته التي أحبّها، من أجل الوقوف على قضايا الناس ومعالجة مشكلاتهم التي ما زالت معلّقة..

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.