انتحروا بعيداً عن المترو أيها "الأوباش"!

انتحروا بعيداً عن المترو أيها "الأوباش"!

24 سبتمبر 2018
+ الخط -
في أميركا، أمّ الرأسمالية المتوحشة كما يسمونها، إذا كنت وافدا غريبا تماما، ووجدت أن تطعيم طفلك قد يكلّفك فوق المائة والخمسين دولارًا لأنه غير مشمول في نظام تأمينك الصحي مثلًا؛ فبإمكانك التوجّه للإدارة الصحية لمنطقة سكنك لأخذه بالمجان وبدون أي سؤال.

وإذا تأخر طفلك ذو الثلاث سنوات في الكلام، وساورك القلق، وأنت وافد جديد وغريب تماما، فما عليك سوى إجراء مكالمة هاتفية للحي والسؤال عن الجهة المختصة بالتقييم الطبي للطفل ودعمه إذا تطلبت حالته الدعم. وبمكالمة هاتف تأتيك أخصائية التخاطب حيث شئت لعمل اختبارات سمع وذكاء وتحدث للطفل. بل وتعرض عليك، عندما تعلم بأنك أجنبي، بأن يرافقها مترجم إذا أحببت. وبعدها تحدد جلسات تقوية التخاطب للطفل، حيث تريد أنت؛ وحيث يكون الطفل أكثر راحة.. حتى ولو في حديقة عامة. وكل ذلك يتم مجانا وبمنتهى الحرفية والاحترام..

وإذا أدركت بالوقت أن النظام الطبي هناك هو مافيا وغول كبير لم يستطيعوا ترويضه بإنفاذ تغطية علاجية مجانية حتى اليوم، بالرغم من أنها الدولة الكبرى والأعلى دخلا على الكوكب، فتعجبت، فلن تلبث أن تدرك أيضا أنه في المقابل يجد غير القادر الطوارئ، جاهزة لاستقباله فورا في كل المشافي بلا استثناء، وأنظمة رعاية الأم والطفل الفيدرالية المدعومة بالكلية جاهزة، والأدوية وعلاجات الأوبئة والأمراض العضالة كالأورام متوفرة بالمجان لكل من يعجز عن توفيرها.


وإذا نظرت للعقارات، فستجدها سوقا رأسماليةً رهيبةً أخرى. أسعار باهظة تعجز أعلى الدخول المتوسطة عن توفيرها، والقادرون يقترضون لسنوات طويلة لتملكها بالرهن العقاري، لكن ستعرف في المقابل أن الدولة توفر مساكن آدمية لائقة للمشردين، ولكبار السن، وللأطفال المبعدين، وللأمهات العازبات. بل توفر لهم ولأسرهم برامج للدمج وللعمل وللدراسة ولو لبعض الوقت حتى لا تستقر فكرة العالة والتهميش والعبء في هذه الطبقات الفقيرة، فتركن للبطالة والعيش على راتب الإعاشة الحكومي للعاطلين، أو تتحول بالوقت لعوالم الجريمة والمخدرات، فتخسر الدولة طاقات بشرية كان يمكن أن تضاف للدولة وتخلق آمالا جديدة.

الشاهد أنها مثال لدولة البيزنس والأعمال والربح غير المحدود والانفتاح والاقتصاد الحر بعيوبه الجمّة التي يعرفها الاقتصاديون ويحللونها. وبها الفقراء والمعدمون والمجرمون والفاسدون كما في كل البلاد، لكن الحقيقة أن الناظر العادي لا يملك إلا الإعجاب وتقدير الجهود. لا لأنها دولة غنية موفورة تضج بالمليارديرات، بل لثبات الإدارة الواعية وتمسكها ولو بالحد الأدنى من إدراك قيمة الحياة.. وقيمة الإنسان. فتظل للمعدم والعاجز ومنخفض الدخل منافذ للعيش الكريم تفتحها له الدولة حتى لا تتركه للسقوط والغرق. وحتى تحفظ حدا أدنى للإنسانية والرفق يتكفل بحفظ السلام الاجتماعي، ويتكفل بمنح الأمل للضعفاء بأنهم ربما يصلون يوما ما.. لأنهم على الأقل "عايشين كالبني آدمين"!

أما عند الجهلاء والأغبياء والطماعين والدول "النايمة".. فالشياطين مطلقة لتعبث بالجميع، وليرفع فاحشو الثراء مع الدولة الفاسدة قبضات متحدة في وجوه كل الفقراء، وليتركوهم للجوع والعراء والجهل والموت، ولينتقلوا بمنتهى الجهل والصلف للإقامة منعزلين في جنات مسورة من قصور وأنهار وملاعب غولف ومسابح، وليبتسموا بعدها للمحرومين ممن يحتضرون بلا مغيث، ويرددوا بلسان الحال عبارة استعملها أحمد خالد توفيق رحمه الله في وصف ما تحمله ضمائرهم المغيبة.. وهي: "بناقص واحد".. أو بناقصكم جميعا!

والمضحك المبكي أن يتجاوب اليائسون من الظلم والحرمان، فيَقبَلون الدعوة ويُقبِلون على الانتحار بأيسر وسيلة يجدونها ولو تحت عجلات المترو، فيخرج من المحاسيب من يتأفف من اختيارهم "السمج" للانتحار تحت المترو وتعطيله، معلنا في بيان رسمي أن "مترو الأنفاق ليس جهة للانتحار"! ليجد الواحد منا نفسه فجأة أمام سؤال وجودي غاية في الإيلام: وما هي يا ترى الجهات الرسمية المناسبة للانتحار؟!

والله لهي درجة من العمى وغياب البصيرة توجع القلوب بأكثر مما يوجعها بؤس البؤساء!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى