عبقري ومستعجل!

عبقري ومستعجل!

16 سبتمبر 2018
+ الخط -
أجد عزائي بين الكتب، ولا أجد لي بين الأنام نصيرا! ثم مصمص شفتيه وعقد حاجبيه؛ فابتسمت وقد مرَّ في خاطري أستاذنا الكبير توفيق الحكيم. ويحدث أن تسمع كلمة فيجول في خاطرك سيل من الذكريات، وقد تغيب عن محدثك وتشخص ببصرك؛ لتضيع في بحر مائج من آلام الماضي وعذاباته. لم أسمع من صديقي شيئًا -وإن كنت حريصا على الاستماع إليه- بعد قوله حكاية عن أحدهم يخاطبه: أنت يا بني عبقري، لكنك تتعجل الأمر، وفي العجلة الندامة.

سبحت في خواطري وتركت صاحبي تتحرك شفتاه، تركته وعدت إلى ثروت أباظة، وهو ابن عائلة الأباظية أهل الثراء والأدب، وقد تخرج في كلية الحقوق وأراد أن يؤسس حياته؛ فقصد إلى بعض أصدقاء والده، ذهب إلى رئيس مجلس إدارة شركة الملح والصودا، عبد الملك حمزة، وكان صديقًا حميمًا لوالده؛ فقال له: تعال بعد أسبوع!


وفي كل أسبوعٍ يقول له الكلمة ذاتها، وفي أسبوع من تلك الأسابيع التي فاقت مواعيد عرقوب أخاه بيثرب، ظهرت للنور رواية "ابن عمار"؛ فأخذ ثروت أباظة منها نسخة علها تشفع له عند حمزة؛ فقال له كالعادة وبكل سعادة: تعال بعد أسبوع! طفح كيل الشاب، وبلغ السيل الزبى، وخرج يتميز من الغيظ لكنه لا يملك حيلة ولا يهتدي سبيلا، وعاد بعد أسبوع. في هذه المرة قال حمزة: أنا لن أعينك؛ فشكره وقبل أن يخرج قال له حمزة: يا ابني انت عبقري، ولن أدفن موهبتك بالوظيفة.

تركه على مثل بندول الساعة أسابيع وأسابيع ثم قال له: أنت عبقري! ووصلها برفضه تعيينه لا لشيءٍ إلا ليحافظ على عبقريته؛ فبقي بلا عمل لا يجد ما يقتات به، ويرى الآخرون أنه عبقريٌ يتعجل سبيل الشهرة والجاه. وقضى أباظة خمسًا وعشرين سنة والجميع يحافظ على عبقريته بحرمانه من وظيفة! ألا قاتل الله تلك العبقرية، عبقرية اشتعل الرأس شيبًا ولا يجد المرء ما يتعفف به، ويداري الناس ويواريهم ويخفي من أمره ما الله به عليم، ويلوك أحدهم لسانه بقوله: أنت عبقري لكنك تتعجل، وفي العجلة ما يدمي الفؤاد.

ثم قطع عني سيل الذكريات، أن ربت صديقي على كتفي وهو يقول: وإليك ما هو أدهى وأمرّ! قلت: هات والحديث ذو شجون، ولم يدرِ صديقي سبب ابتسامتي التي لا مبرر لها عنده، فزمَّ شفتيه وقال بمرارة: اتصلت بأبي ليساعدني؛ فقال لي: هل تتصور أن أرفع سماعة الهاتف لأستجدي من أحدهم لك عملًا؟ فلم يطاوعني لساني أن ألحَّ عليه، وضاع شبابي بين عزة نفس أبي وعبقريتي. وكان حافظ عفيفي من أصدقاء والد ثروت أباظة المقربين، وكان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك مصر، ورفض والد ثروت أن يتوسط لابنه عند عفيفي للعمل محاميًا ببنك مصر!

انقطع خيط الحديث برهة، وانتظر صديقي أن أدلي بدلوي، لكنني لم أفُه بكلمه وطال الصمت فأطرقت لأتشاغل عنه؛ ففهم وسألني: تُرى سرقتنا الحياة يا صديقي؟ أيتيح لنا الدهر ثلث قرن آخر لنعيشه؟ وإن كان فهل تنقضي أتراحنا وتصالحنا الحياة؟ ثم خنقته العبرة وارتخت عيناه بدمعٍ عليل. عبثًا حاولت أن أنطق بكلمة، قبلت رأسه وجاهدت دمعي، وودي لو واسيته ببعض كلماتٍ، لكنها ماتت على لساني أمام دمعه المهراق.

بعد قليل، صافحني صديقي واستأذن لارتباطه بمقابلة عمل، وأشفقت عليه أن يُحرم منها لعبقريته، ورجوت له الخير والتوفيق، ومضيت متثاقل الخطى إلى غرفتني، يلفني الصمت وتأسرني الوحدة، وأعدت تفاصيل المشهد بيني وبين نفسي، ولاحت لي صورة أمي في بسمتها الحانية تقول لي: هتروق وتحلى! خليها على الله؛ فذاب جليد لساني، وسرى السرور في جوانجي، وخطر لي أن اطمئن على صاحبي.

اتصلت به ويحمل صوتي مشاعر البهجة، وسألته عن المقابلة فقال: أطرى المسؤول على خبرتي، وقال لي أنت كنز لا ينبغي لنا أن نفرِّط فيه، غير أن العمل لا يناسب خبراتك ومهاراتك! تذكرت عبقرية ثروت أباظة، ولكن الأمل في وجه الله باقٍ؛ فقلت له ما قالته أمي: هتروق وتحلى! خليها على الله.

دلالات