ذعر... خوف ورحيل قسري!

ذعر... خوف ورحيل قسري!

15 سبتمبر 2018
+ الخط -
لم يكن فارس قادراً على إيجاد الملاذ الآمن له ولأسرته، ولزوجته المريضة التي تعاني من مرض عضال حيال واقع الحذر الشديد الذي انتابه، وبدء العد التنازلي، والخوف من التشرّد الذي حلَّ بمن عرفهم عن قرب من أصدقائه الذين شاءت الصدف أن يكونوا قد حضّروا أنفسهم للرحيل القسري عن المدينة التي يقيمون فيها، والتي اجتاحها المسلحون، واللجوء إلى مكان قصي أكثر أمناً، وبعد أن دخلوها دبَّ الرعب في قلوبهم، حيث فوجئوا بما حدث، وعلى غير العادة، فكانت شارة البدء، ما اضطرهم إلى ترك أماكن سكناهم عنوةً بعد أن أُصيبوا بالذعر والهلع، والخوف من المجهول!

اضطروا إلى الرحيل، ونقل ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، وبسرعة، هبَّ معهم الكثير من أهالي المدينة، لمن رغب في الهرب، والنجاة بنفسه خوفاً من القادم الأعظم!

في اليوم التالي من رحيلهم، هاجمت الطائرات مواقع تمركز هؤلاء المسلحين، ما دفع بقية الأهالي، الذين فضلوا الإقامة بدلاً من الرحيل، إلى مغادرة المدينة، مسقط رأسهم، وعلى عجل مرغمين!

ندرة من الرجال والشباب بقوا في منازلهم، ولم يحاولوا الهرب، بل ظلوا فيها تحسباً من تعرضّها للسرقة والنهب!

ساءت أحوال المدينة، ولم ترَ في الشوارع إلا نسبةً ضئيلة جداً من الأهالي، فصارت شوارعها تعيش حالة من الهوان، والرجاء.

غياب الأهالي بهذه الطريقة غير المتوقعة حوّل المدينة الهادئة إلى مدينة أشباح حقيقية، ونادراً ما تجد في الشوارع التي خلت من سكانها، ممن تعرفه سواء لجهة جار عزيز أو صديق حميم، أو حتى عابر سبيل!

الخوف والرعب سيطرا تماماً على قلوب الناس، حيث صاروا يضربون أخماساً بأسداس، والمدينة تعيش حالة من الحزن والكآبة، والمحال التجارية تستعرض واقع الحياة اليومي المهمّش، وارتفاع غير مسبوق لأسعار المواد الاستهلاكية الضرورية التي يحتاجها المواطن، والتي بدت تختفي تارةً وتظهر للعلن تارةً أخرى.

الأسعار أحرقت جيب المستهلك، وارتفعت بشكلٍ لافت، والسبب، الارتفاع الجنوني للدولار الذي أخذ أبعاداً شتى، وشمل المواد غير المستهلكة، والتي لم يكن متوقعاً يوماً ما أن تلقى رواجاً أو رغبة لدى المواطن في اقتنائها، وهكذا دواليك.

استمرت المسامرات والأحاديث الجانبية تنقل الواقع المجهول لمدينة حالمة، وترى أشياء غريبة كل يوم، ومناظر جديدة مقزّزة تلفت النظر، وعبارات مكتوبة على الجدران، وواجهات المحال التجارية، أينما كانت وجهتك، ومسمّيات لها أوّل وليس لها آخر.. وهذا ما كانوا يخشونه، ناهيك بالمصير المجهول الذي رافقه انقطاع مستمر للخدمات الرئيسة من ماء وكهرباء، وحتى الاتصالات، التي حاولت مراراً العصابات المجهولة إغلاقها بوجههم ومنع الأهالي من الاتصال بأي شخص كان مهما أُبرز لهم من وثائق تثبت الانتماء إلى هذا البلد الذي يعيشون فيه!

الفأس وقع بالرأس، وبداية الخيط لاحت في الأفق، وهذه الصورة جميعها لم ينفع معها أي فتيل آخر.. غير أنَّ الواقع الذي حل بالمدينة، حوّلها إلى بؤرة ملطخة بالشماتة، وتحوّل حال أهلها إلى إقامة مآتم عزاء من نوع آخر!

صراع بين الموت والحياة، وصور لغرائب جديدة صارت تظهر في حياتنا المثخنة بالجراح. في الشوارع، في الأحياء، في الأماكن العامة، وفي المتنزّهات.

صور غَالبها واقع جديد تمنى الأهالي أن يُحْسَمْ وينتهي بأيٍ شكلٍ كان، وتزول هذه الأزمة التي لازمتهم، وحوّلت حياتهم الآمنة إلى تشرد وضياع، وحرمان وفقر مدقع!

وفي المحطّة التالية المتعبة التي كان لها تأثيرها المباشر في العلاقة الوثيقة التي جمعت كلا من زياد وحسين وعلاء، وهما في طريقهما إلى حيث يعيش عبد الرحمن الذي عانى الكثير نتيجة الحرب التي حصدت بيته وما يملك، لم تبق ولم تَذر، أما أولاد عمومته، وبقية أفراد أسرته فكانوا يُحبونه وبشغف ويأملون له عيشاً كريماً، بعيداً عن الرحيل، بعدما تحولت حياته إلى سوداوية بغيضة.

تبادر إلى ذهن أحمد يوماً أن يغادر قريته فاراً بجلده قبل أن تفعل الحرب الضروس فعلتها، وتختصر كل شيء في حياته.

إنها حالة من الدمار والفزع التي نسفت كل شيء، وأنهت حياة ورغبات وأحلام الكثير من الشباب الطامح إلى الهجرة والسفر، الذي كان يوماً حلماً بعيد المنال بدلاً من اللجوء الذي اضطر إليه أغلب الشباب.

هكذا كانت حالة أحمد وحسين وعلي، وجميع الشباب، أصدقاء ومقربين، البحث عن الهجرة إلى حيث سافر نايف وحمد وعبد الله، وكثير من الأصدقاء والمعارف، ليس حبّاً بالسفر أو الهجرة، ولكن هرباً من التجنيد الإجباري والخدمة العسكرية، أضف إلى المعاملة السيئة التي يُعاني منها الشباب المنخرط فيها، والتي صارت لا تطاق، وهذا ما نقل على لسان قريب إلى أحدهم الذي قضى ما ينوف عن خمس سنوات في خدمة الوطن الذي لم يبقَ منه إلا بعض من البيوت القائمة، والذي شمل الدمار أغلب المنازل التي حاول أبناؤه، وبإمكانياتهم البسيطة، إعادة إعمار ما أتت عليه الحرب، ولكن هذا يحتاج إلى الكثير من الأموال التي يفتقدها الأهالي الذين لا حول لهم ولا قوة، وما بين أيديهم بالكاد يكفيهم قوت يومهم، واعتماد أغلب السكان على ما يرسله لهم أبناؤهم المهجّرون في أماكن اللجوء من فتات ما يعيشون به من المساعدات التي يقبضونها مع بداية كل شهر، ظانين أنهم في الغربة القسرية يمارسون أعمالاً تدرّ عليهم دخولاً ترضيهم، ويحسبون أنهم يعيشون في بحبوحة من العيش، أما الواقع فهو غير ذلك تماماً.

فالحاجة لحقت بدورها، حتى باللاجئين الذين تشردوا في بلاد الله الواسعة، وأوصلتهم أقدامهم إلى بلاد النعيم بعد أن أعياهم البرد القارس، وتحمّلوا الكثير من المآسي، ناهيك بالمخاطر التي واجهتهم، وما دفع من مبالغ مالية حتى يتمكنوا من الوصول إلى حيث يعيشون اليوم.

رحل كثيرون حفاظاً على أرواحهم، بسبب اندلاع شرارة الحرب وقسوتها التي قضت على الكثير من آمال الشباب، فضلا عن المطاردة والمعاملة السيئة، ما دفعهم إلى الهروب إلى خارج البلاد، وإن كلفهم ذلك حياتهم، وهذا ما حصل للكثيرين ممن ساقتهم أقدامهم إلى الدول الأوروبية، وغيرها من "بلاد النعيم" التي رأوا فيها حياة آمنة لهم ولأسرهم..
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.