لعنة أن تولد في زمن عصيب!

لعنة أن تولد في زمن عصيب!

02 سبتمبر 2018
+ الخط -
"ألعنك وأدعو أن تولد في عصر هام".

لعنة فريدة من نوعها توصلت حكمة الصينيين القدماء إليها، واستوقفت من بعدهم بقرون الروائي اليوناني العظيم نيكوس كازنتزاكي، وهو يكتب مذكراته التي صاغها في شكل تقرير وجهه إلى ابنه غريكو، وأخذ يتأمل فيه العصر "الهام" الذي ولد وعاش فيه، والذي كان مليئاً "بالتجارب المتكررة والمخاطرات والاصطدامات"، لكنها لم تكن مصادمات بين الفضائل والرذائل فقط كما كان الأمر في عصور سابقة، بل كانت أحياناً مصادمات بين الفضائل ذاتها، أو بين التصورات المختلفة للفضائل، وكان لذلك جانب مأساوي مختلف في رأيه، خاصة أن "الفضائل القديمة المعترف بها أخذت تفقد سلطتها، منذ أن عجزت عن تلبية المتطلبات الدينية والخلقية والثقافية والاجتماعية التي تطمح إليها النفس المعاصرة، إذ يبدو أن نفس الإنسان قد كبرت، ولم تعد قادرة على أن تتواءم مع الأنماط القديمة"، ولعلك حين تقرأ ما كتبه تسأل نفسك: أي لعنة هي إذن أن يولد الإنسان في عصر تتصادم فيه الرذائل ببعضها، ليصبح الإنسان مجبراً على الاختيار بين السيئ والأسوأ.

حين كتب كازنتزاكي تقريره، لم يكن يدرك أنه كان تقريراً ختامياً، فقد كان مفعماً بالرغبة في الكتابة، وكما تقول حبيبته هيلين، كان يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى يكمل فيها عمله، ليقول فيها ما كان عليه أن يقول ويفرغ كل ما في نفسه، لكي لا يأخذ الموت منه حين يأتيه، إلا كيساً من العظام، ومع أنه كان يمتلك أفكار ثلاث روايات جديدة، فقد قرر أن يبدأ قبلها بالعمل في تقريره إلى غريكو في خريف 1956، لتوافيه المنية قبل أن يكمل كتابة ما لم يكن يعتبره مجرد سيرة ذاتية، بل "الأثر الأحمر الذي خلّفته قطرات من دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار"، معبراً في  كل ما كتبه خلال تقريره عن تأثره بالدرجات الأربع الحاسمة في صعوده الوعر الشاق إلى الله: المسيح ـ بوذا ـ لينين ـ أوليس. 

 

كان كازنتزاكي يدرك أهمية عصره وصعوبته، ولذلك كتب قائلاً إن على كل إنسان أن يتواءم في عصره ببطولة مع فكرة أن السلام والفرح وما يسمى بالسعادة، أمور تعود إلى عصور أخرى في الماضي أو في المستقبل، ولكنها ليست بالضرورة واردة في العصر الذي يعيشون فيه، "فقد دخل عصرنا منذ أمد طويل مدار العذاب"، ومع ذلك لم يقلق العذاب كازنتزاكي أكثر من اللازم، ولم يشغله بالقدر الذي كانت تشغله وتؤرقه تلك الآمال المتذبذبة وغير المحددة بعد، والتي كان يحاول أن يقوم بتثبّت ملامحها، "الآمال العظيمة التي تمكننا من الوقوف بثبات ومن التحديق بثقة إلى الأمام عبر العاصفة، إلى مصير الإنسان".

في أحد فصول تقريره الذي ترجمه الأديب السوري الكبير ممدوح عدوان، يتحدث كازنتزاكي عن علاقته الطويلة بالكتابة التي يرى ـ ومن حقك أن تختلف معه ـ أنها ربما كان يمكن أن تكون لعبة في عصور التوازن والانسجام، لكنه كان يراها في عصره مهمة جسيمة، "لم يعد الغرض منها تسلية العقول بالقصص الخرافية، أو مساعدة هذه العقول على النسيان، بل الغرض منها تحقيق حالة من التوحد بين كافة القوى الوضاءة التي ما تزال قادرة على الحياة حتى أيامنا الانتقالية هذه، والغرض أيضاً تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده، لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه"، وهي مهمة كان يدرك أنها صعبة جداً، بل ربما كانت غير ممكنة التحقيق بعد، لأننا حين نرى أنفسنا في لحظة من الانهيار الكوني والخلق الكوني في نفس الوقت، فإن أعظم الجهود الفردية لن يُقدّر لها إلا الإجهاض والإحباط، لكنه يرى أن هذه الإجهاضات ذاتها تحمل في داخلها خصبها، إن لم يكن لنا فللآتين من بعدنا، لأنها تفتح لهم الطريق وتعين المستقبل على أن يسلك هذا الطريق، وفي ظل ذلك الشعور المركّب الذي يتخطى ثنائية الأمل واليأس المبتذلة، كان كازنتزاكي كلما كتب أكثر، يتعمق إحساسه أنه يكافح من أجل نفسه، يكافح من أجل الخلاص من عتمته الداخلية العميقة، لعله يحولها إلى نور، أو لعله يحاول تحويلها إلى نور، مستقياً في ذلك سيرة العظماء الذين نجحوا في عبور أقسى الامتحانات، لعله يرى مثلهم قدرة النفس الإنسانية على الانتصار على أي شيء.   

يعرف كازنتزاكي أن ولادته صادفت عصراً لعيناً كان فيه الصراع حاداً وضارياً، وكانت الحاجة فيه ملحة لتقديم العون لكل من يستحقه، فاستطاع أن يرى العلاقة الوثيقة بين كفاحه الشخصي، والكفاح العام في العالم الذي عاصره، "كنا متشابهين في معركتينا نحو الخلاص، خلاصي من أسلافي المعتمين، وخلاص العالم من العالم القديم الغاشم، خلاصنا من العتم"، وحين أعلنت الحرب العالمية الثانية، وجن جنون الأرض بأسرها، أدرك كازنتزاكي أن شيطان عصره هو الذي يحكم، ومع أن لكل عصر شيطانه، فقد كان "شيطان عصرنا من ذلك النوع المتعطش للدماء، كما هو الحال دائماً حين يتعفن العالم ويصبح من الواجب أن يزول"، ولذلك كان يرى العالم من حوله وهو يفنى، لكنه رأى في ذلك الفناء فتحاً لطريق دموي، ربما تستطيع الروح أن تمر منه بسلام بعد أن يفنى ذلك العالم القديم المتعفن الذي كان يسد عليها الطريق.

كان كازنتزاكي يعيش في فترة عصيبة، حين تلقى خبر وفاة بطله الحميم ألكسي زوربا الذي كتب عنه أشهر رواياته،  فأخذ يتمتم لنفسه قائلاً: "راح زوربا، راح إلى الأبد، ماتت الضحكة وانقطعت الأغنية وتوقفت الرقصة على حصى الشاطئ، والفم الذي كان لا يهدأ عن طرح الأسئلة أصبح الآن مليئا بالتراب، ولن توجد بعد اليوم أبداً يد

تلاطف الحجارة والخبز والنساء... ظلم ظلم، أرواح كهذه لا يجب أن تموت، هل في وسع الأرض والماء والنار والحظ أن تعيد تشكيل زوربا آخر؟". لكنه حين يسأل نفسه عما يمكن أن يفعله لكي يطرد الموت منه، موت زوربا وموت كل الأعزاء الذين خلق الله القلب لكي يبعثهم ويعيدهم إلى الحياة، لا يجد أمامه سوى أن يصرخ، لأن الإنسان في نهاية المطاف ليس سوى شيء قلق وصارخ، ولأن لكل إنسان صرخته الخاصة، التي يجب أن ترتفع في الجو قبل أن يموت، حتى لو تعثرت دون جدوى في الحياة، دون أن تسمعها أذن، "ولكن لا يهم، أنت لست غنمة، أنت إنسان، فلتصرخ إذن".

يعترف كازنتزاكي في حسابه الختامي مع نفسه أن شبابه لم يكن إلا مجموعة من المقلقات والكوابيس والتساؤلات، وأن سنوات نضجه لم تكن إلا إجابات متعثرة، كان يتطلع فيها إلى النجوم والبشر والأفكار، مصارحاً نفسه بحقيقة ما عاشه: "أية فوضى.. سلكت طريقا ووصلت إلى نهايته، هاوية، عدت مذعورا وسلكت طريقا آخر، ولكن الهاوية كانت مرة أخرى في نهايته، انسحاب جديد ورحلة جديدة وبغتة الهاوية ذاتها تفغر فاهها أمامي من جديد، طرق العقل كلها كانت تؤدي إلى الهاوية".

وفي حين كانت سنوات شباب كازنتزاكي ورجولته تدور حول قطبي الألم والأمل، هاهو يقف في شيخوخته أمام الهاوية هادئاً ودون خوف، دون أن يهرب ودون أن يذل نفسه، أصبح يعرف أن الموت غير مرئي، وأنه لن ينتصر عليه، لكنه مع ذلك يقول لنفسه إن "قيمة الإنسان لا تكمن في النصر، بل في الكفاح من أجل النصر"، ثم يستدرك قائلاً إنه أصبح يعرف أمراً أكثر صعوبة، هو أن قيمة الإنسان لا تكمن حتى في الكفاح من أجل النصر، بل هي كامنة في شيء واحد فقط، هو أن يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل بقبول أي جزاء، بل وأصبح يعرف ما هو أكثر صعوبة، وهو "أن التيقن من عدم وجود جزاء يجب أن لا يفزعنا، بل يجب أن يملأنا بالغبطة والكبرياء والشجاعة الرجولية".

يا له من معنى كبير مهيب، ربما ساعدنا التمسك به على النجاة من لعنة العيش في عصر كهذا، وربما فشلنا في النجاة برغم كل محاولات القبض على ذلك المعنى، لكن قيمتنا في نهاية المطاف ستبقى كما ينبهنا كازنتزاكي "في رفضنا المستمر لإذلال أنفسنا أمام الهاوية"، وهو رفض لن يكون سهلاً في زمن كهذا، لكن ليس أمامنا إلا أن نأمل في ذلك بصدق، ونحاول تحقيقه بإخلاص.

....

ـ تقرير إلى غريكو ـ نيكوس كازانتزاكي ـ ترجمة ممدوح عدوان ـ الجندي للطباعة والنشر

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.