ضرورة الكذب في هذه المرحلة

ضرورة الكذب في هذه المرحلة

07 اغسطس 2018
+ الخط -
المادة الرئيسية للغة هي "القول"، والقول، بالنسبة لمعظم اللغات قولان، شعر، ونثر، والغرض من القولين هو إيصال الأفكار والأحاسيس والتفاهم. وحينما دخلت السياسة، وشهوة الحُكْم، وحبُّ التسلط على خط "القول"، فَسدَت العلاقة، وتعقدت، ووصلت الأمور إلى مستويات كارثية.

يمكننا، إذن، أن نُحَمِّلَ السياسة ما جرى لـ"القول"، عبر التاريخ، من انحرافات، وما أصيب به من علل، وأمراض، وآفات.. ولنلاحظ أنّ السلاح الأقوى الذي امتشقه السياسيون في مواجهة خصومهم، والقادةُ ضدّ شعوبهم هو الكذب.. وأنا أعتقد أن كلمة "الصدق" لم يكن لها وجود في النسخة الأولى للغة، ولكن ظهور الكذب اضطر اللغويين لإحداث مفردة "الصدق" لأجل التمييز بين الحالين المتضادين.


الشيء الطبيعي أنْ يتطور الكذب، ويصبح له "فنون"، بينما يرابض الصدق في مكمنه فاقدَ العزم، مهدود الحيل، مثلما وصفه الفنان "أسامة الروماني" في الموال الذي غناه خلال مشهد عيد الكذب بمسرحية (غربة- 1976):
الصدق ما لُهْ حيل يسند عواميدُه
والكذب باعُه طويل ما أطولا إيدُه!

أجرى السياسيون، عبر العصور، عمليات تجميل كثيرة ومعقدة لـ "القول"، واشتغلوا في تحويره، وتزويره، والسكوت عن بعضه، وإبراز بعضه الآخر، ولأجل هذه الغاية اخترعوا مصطلح "النسبية"، فلا تعدم أن يأتي أحدُهم، ويحاول إقناعك بتبني موقفه الأيديولوجي، فيقول لك: يا أخي الأمور نسبية، يعني صحيح أن ستالين قتل عشرين مليون إنسان. ولكنه بنى دولة، وصنع قنبلة ذرية، وخلى أميركا تحسب للاتحاد السوفييتي ألف حساب، وصحيح أن صدام حسين مجرم، بس الزلمة وقف في وجه إيران وأحلامها التوسعية..

ويأتيك، في المحصلة واحد من محبي عائلة الأسد (منحبكجي) ويقول لك بطريقة أكثر غلاظة:
- يا أخي الأمور نسبية، أنت تدعو للصدق، وتنتقدنا نحن السياسيين لأننا نكذب، ولكن افرض أنك كنت عسكرياً، ووقعت في الأسر عند العدو الإسرائيلي، فهل تكون صادقاً وتبوح للعدو بأماكن تواجد رفاقك، والأسلحة التي يستخدمها جيشُنا الباسل، وأين تُخَبِّئ قيادتنا الحكيمة الصواريخ المحملة برؤوس كيميائية، مثلاً؟ يعني، لا تؤاخذني يا أخي، الكذب من ضرورات المرحلة، والصدق هو نوع من الغباء والسذاجة!

شي حلو هذا الاستنتاج والله.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...