وليمة اللقاء الافتراضي الأخير

وليمة اللقاء الافتراضي الأخير

05 اغسطس 2018
+ الخط -


كانت الساعات الأولى من الفجر، وكان سعيدا بتلقي دعوة لطالما انتظرها، أو توقعها، "وليمة العشاء الأخير لرواد فيسبوك"، كانت تفصله ساعات قليلة عن الذهاب لتلك الوليمة، سيلتقيهم إذن، سيراهم وسيتحدث إليهم، وسيودعهم.

وبدأ يفكر من جديد؛ ماذا سيكون شكل هؤلاء، وكيف سيجمع الحفل كل أولئك الذين لطالما قرأهم، واختلف معهم، واستسلم للنوم قبل أن يغادر غرفته الصغيرة.

المنبه يخبره بأن الموعد قد اقترب، وأنه على أبواب حفل لن يدرك ما يخبئه له. أغلق باب غرفته واستودع أفكاره وسافر حيث دعوته، وعند باب قاعة الحفل تسمّر واقفا ليشاهد الجميع، بعضهم يعرفه جيداً، وبعضهم دلته حواسه الفكرية ليتعرف إلى وجوههم، والجميع ينتظر، واللهفة تحيط بنظراتهم كمن يرى مطراً طالما انتظره.


كان عليهم أن يديروا حفلاً بلا مقدم، وكانوا جميعا عرفاءه، لم يدم الصمت كثيراً، تحول لضجيج صاخب، ثم لعراك فكري عنيف، وبين صمت وعراك، كانت هناك لقاءات سريعة لأشخاص لم تجمعهم سوى الفكرة والعشق البعيد، وكان هو وحده من ينتظر لقاءات بهتت مع أول فنجان قهوة تناوله، صوتاً قوياً داهم الجميع بأن اللقاء الأول هو ذاته اللقاء الأخير هذا، هو ذاته الوداع المحتوم لمن لم يلتق بهم إلا عبر الحروف.

قالت سيدة من بعيد: كنت رجلا إذن ولم تكن امرأة، وقالت سيدة أخرى: أنت وسيم كما توقعتك، وأجهش بعضهم بالبكاء، لأن الآخرين لم يكونوا سوى حبر على ورق.

توسم خيراً حين قابل صديقاً كان يعرفه ويراه منذ زمن، وكان الاثنان يتبادلان صاعقة المعرفة، لقد كنا نلهو على ورق افتراضي، واليوم ندرك أننا سنعود لنبتعد، لنقترب لواقع هربنا من مرارته، ومخاوفه، وجديته.

كان يحاول أن ترصد عيناه أكبر عدد من الوجوه، كانت القامات تتهاوى أمامه لاهية ساخرة، فجميعها تنتظر هذا اللقاء الوداع، وجميعها تلوح بأفكار أحاطها الندم لأنها تطايرت في ذلك العالم الأزرق دون أن تترك أثراً بعيداً كما كان يعتقد.

سنعود إذن لحياتنا من دون أفكار، ومن دون مواقف افتراضية، ولا أزرار وهمية تلف حروفنا حباً وابتساماً وحزناً، وكثيراً ما انتظرناها.

هل حقا كتبنا ليقرأنا الآخرون؟ وهل حقا قرأنا ما كتبه الآخرون؟.. لقد تأممت أفكارنا؛ فبعضها سرقها محتالو الفكر، وبعضها طواها النسيان، وكأنها لم تكتب! وكان عليه أن يدرك الآن فقط، أن الذكريات المحسوسة ينقصها لهفة المعرفة الواقعية، حتى أنه أدار ظهره لوجوه لم يكن يعلم أنها هي تلك التي تضحك الآن ساخرة من وليمة كان من المفترض أن تحمل الكثير من الحب الافتراضي، والاحترام الفكري.

لقد تسللت الأفكار عبر ذلك الفضاء الافتراضي من دون أن تحمل معها روح البقاء، وكان عليهم في نهاية الحفل أن يوقعوا على صورة كبيرة كتب عليها: "لقد التقينا بالحروف، وحان الوقت أن نتودع باللامبالاة، وإلى اللقاء في عالم سيتم اختراعه؛ ويكون أكثر فراغاً، وأكثر خواء".
8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.