السوريون ولعنة الأرقام

السوريون ولعنة الأرقام

05 اغسطس 2018
+ الخط -


تنشر وكالة إخبارية الخبر التالي: (مقتل 50 سورياً في منطقة كذا)، ويمر الخبر بشكل عادي وبدون أن يقف أحد وراء هذه المأساة المتكررة في كل يوم، التي تلاحق السوريين أينما حلوا.

لقد أصبح اسم السوريين مرتبطاً بالموت وموتهم مرتبطاً بالأرقام، فإنك قلما تجد حادثة تصيب سورياً لوحده، فقد صارت نغمة الموت الجماعي معزوفة السوريين في هذا العصر.

ضحايا التعذيب في سجون المحتل الأسدي: أرقام.
شهداء تحت القصف: أرقام.
مهجرون في العراء وفي المخيمات: أرقام.
هائمون على وجههم في شتى البقاع: أرقام.
غارقون في البحر: أرقام.
ضحايا المقابر الجماعية: أرقام.

في يوم واحد تم اكتشاف مقبرة جماعية في الرقة تضم العشرات من المدنيين الذين قضوا بضربات التحالف الأميركي الأوروبي الدولي لتدمير مدينة الرقة واحتلالها، وفي اليوم ذاته كشف نظام المجرم القابع في قصر المهاجرين عن مصير ألف أسير في داريا قتلوا تحت التعذيب في السجون المظلمة.


لم تبقَ في سورية عائلة إلا وقد شربت من مرارة كأس الأرقام ولعنتها التي تلاحقهم أينما نزلوا وأينما وصلوا وبأي حال كانوا.

قد لا نفهم ماذا يعني رقم ألف بالنسبة لأهاليهم، أعرف رجلاً اختطفته قوات الأسد منذ 4 أعوام تقريباً وما زال مصيره مجهولاً، وكانت زوجته ترفض أن تقتنع أنه قُتِل مع أن الأنباء والتسريبات تصلهم بأنه قد قضى في سجنه، وترفض أن تلبس لباس الحزن الأسود؛ راغبة في عودته، ليست لوحدها فإن غالبية من ينتظرن أزواجهن ليخرجوا من خلف القضبان الظالم يحاولن ألا يحبسن أنفسهن بقيد الحزن، ويرفضن فكرة موت المعتقل أو عدم إمكانية رؤيته مرة أخرى، فيا ترى بعد هذه التسريبات كم من حرة رضخت للواقع ولبست السواد؟!

الألف تعني أن ألف أم فُطر قلبها وألف أب خارت قواه، وتعني أن آلاف الإخوة والأخوات انقصمت ظهورهم.

مجزرة الرقة، التي تذكر على خجل في وسائل الإعلام كون الفاعل (حمامة السلام الأميركية)، هذه المقبرة الجماعية، تعني أنّ عوائل بالكامل ماتت بضربة واحدة، الرجل وزوجته وأولاده وأمه العجوز التي كانت تسلي نفسها في زاوية الدار بحياكة جوارب من الصوف في شتاء العام الماضي، كم سيهرع إلى المشفى الرسمي في الرقة الوحيد من أناس ليسألوا عن مفقودين؟ وكم سيعود من خائب ينتظر العثور على مقبرة جماعية أخرى لعله يجد قريبه المفقود؟

أرقام.. أرقام.. أرقام..

وتستمر الجريمة ويستمر التوثيق ويستمر التمادي، ولا حسيب ولا رقيب من قضاة الأرض يُنصف هذه الأرقام المتناثرة في كل هذه المعمورة القذرة المتخاذلة النتنة.

كم رقماً قُتل على حدود درعا بالأمس، بسبب الحر ولدغات العقارب في العراء؛ هاربون من موت القذائف والصواريخ فيقتلهم تخاذل حكومة الأردن؟

وبالمناسبة كم رقماً من المعلمين قُطع رزقهم في مخيم الزعتري قبل أيام وأغلقت مدارسهم؟
وكم رقماً سيتم إعادته من مخيمات لبنان والأردن إلى حكم الأسد المستبد؟!
وكم رقماً في إدلب ينتظر المجهول؟
وكم رقماً في تركيا يراقب ولا يعلم هل شرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم خيراً؟
كم من رقم سوري محتار لا يدري إلى متى تبقى بلاده كالكرة تتقاذفها أقدام اللاعبين، وتهتف لهم الجماهير؟
كم من سوري ينتظر صافرة الحكم، أياً كانت النتيجة!!

نصف قرن من الاحتلال البعثي للسلطة في سورية منها ثلاثون عاماً تحت حكم ديكتاتور زمانه الذي فاق إجرامه الوصف، و11 عاماً تحت حكم ابنه القاتل، حقبة ملأها القهر والظلم والاستغلال والإذلال والسجن، والقتل والتغييب والحلول الأمنية لأتفه القضايا، وسرقة الشعب وتهميش المظلومين، وتركيع الناس وتدجينهم، وضحك على اللحى ومقاومة بالثرثرة، انتهت بقلع أظافر أطفال اكبرهم في الثالثة عشر، وثمانية أعوام من الإجرام المباشر العلني من الرصاص على المتظاهرين إلى القصف بالدبابات وليس انتهاء بجرائم الطيران، والدك بالصواريخ واستخدام أقذر الأسلحة الكيميائية، واستخدام كل طغاة الأرض لخنق ثورة شعب رفض البقاء تحت حكم الاستبداد، منها 4 سنوات عقوبة تحت حكم الدواعش كي يبدع الرسام البغدادي في رسم اللوحة البديلة لنظام الأسد في حال سقوطه ويغزو روما في مخيلة عدنانية، ومنها سنوات ست في الجزيرة السورية تحت حكم شذاذ قنديل ليبنوا دولتهم البائسة على جثث وأحلام أبناء المنطقة الأبرياء كرداً وعرباً، ومنها سنوات تحت آلة الدمار الشيعية الطائفية، التي لا ترى في السوريين إلا يزيد بن معاوية وشمر بن الجوشن، وجاءت بصك بالوكالة لتأخذ بدم الحسين من أطفال سورية، سنوات جعلت من السوريين "صيدة" تهاوش عليها الأصدقاء، وجعلت منهم حراس حدود في الشمال، وأحجار شطرنج للتفاوض، وأرقاماً للمصالحات التي نسجها ونظمها ضفادع الخيانة.

ذكرت هذه الأحداث والمآسي لأذكركم أنها أيضاً أصبحت أرقاماً، وكما أنكم عندما توردون رقم ألف على وسائل التواصل دون أن تنتبهوا ماذا تعني الألف؟ فإن السوريين صاروا يتعاملون مع مصائبهم على أنها أرقام أيضاً، فسنوات الظلم أرقام وعصابات الإجرام، وخطابات الكراهية أرقام؛ ووعود الأصدقاء أرقام.. ما عادت الأرقام تعني للسوريين شيئاً ولا عادت تهزهم أو تؤثر فيهم، وليس لسورية إلا شعارها الواحد الذي لا يمكن أن يتعدد؛ نادى به أحرار الثورة منذ انطلاقتها، وكأنهم أدركوا منذ الشرارة الأولى أن العدو صادق في عداوته وإجرامه، والصديق كاذب في نصرته وتأييده، فقالوا: (يا الله!! مالنا غيرك يا الله)
0D06433F-B23F-4A09-95F8-B116DFFBEB69
أحمد الصالح

معلم كيمياء... مدون وكاتب مقالات، ولدت في مدينة الرقة 1991 وغادرتها عام 2015 متوجها إلى إسطنبول.. أكتب في السياسة وعن الثورة السورية، ومقتطفات أخرى، لي كتابات سياسية ناقدة وأخرى تحليلية وبعض المقتطفات الساخرة حاليا.يقول: لا أحب أن أخطو إلى الأمام خطوة وأترك خلفي شخصا يحتاجني.