أدب الكتابة على الحيطان!

أدب الكتابة على الحيطان!

06 اغسطس 2018
+ الخط -

لا تستهن بما هو مكتوب على بعض حوائط مدننا اليوم، فهو أدب حقيقي كامل الأوصاف، لا ينقصه إلا مؤلف وناقد بارع مثل أبي الفرج الأصبهاني، الذي قام قبل مئات السنين بتأليف كتاب جميل، جمع فيه ما رآه وما سمع عنه من كتابات وأشعار تركها غرباء مجهولون على الحوائط والأحجار، قائلاً إن ما دفعه لتأليف كتابه كان معاناته من القلق والكرب والشكوى وتغير أحواله من سعة إلى ضيق وزيادة إلى نقصان، فقرر أن يغير ما به من "تقسّم القلب وحرج الصدر"، بجمع أخبار "من قال شعراً في غربة، ونطق عمّا به من كربة، وأعلن الشكوى بوجده إلى كل مشرّد عن أوطانه، ونازح الدار عن إخوانه، فكتب بما لقي من الجدران، وباح بسره في كل حانةٍ وبستان".

لم يحقق كتاب (أدب الغرباء) للأصبهاني نفس ما حققه كتابه (الأغاني) من ذيوع وانتشار، فظل للأسف محجوباً لقرون عن قراء العربية، حتى وجد المحقق البارز الدكتور صلاح الدين المنجد نسخة منه عام 1965 خلال رحلة له إلى مدينة طهران، حيث أطلعه عميد كلية الإلهيات في جامعتها بديع الزمان فروزنفر على مخطوط الكتاب، وقال له إنها نسخة فريدة، لعلها الوحيدة في مكتبات العالم، وأهداه نسخة مصورة منه، فوصلت إلينا بفضلهما تلك الكتابات الجميلة، التي لم يفكر أصحابها فيما هو أبعد من تسجيلها على الحيطان والأحجار، لكي لا تموت بداخلهم.



أغرب حكايات الكتاب وأكثرها درامية، ما يرويه الأصبهاني نقلاً عن أحد مشايخ البصرة ممن "دوّخ البلاد وقطع عمره في الأسفار"، والذي أوصله ركوب البحر ذات مرة إلى جزيرة لا يعرفها هو ورفاقها، بها قوم يتكلمون بكلام لا يفهمونه، وبعد أن تبددت مخاوفهم من الهلاك على أيدي سكان الجزيرة، بدأوا التجوال في أنحائها، فأبصر الشيخ على باب المدينة كتابة بالعربية يقول نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله خالق الخلق وصاحب الرزق، ما أعجب قصتي وأعظم محنتي، أفضتني الخطوب وقصدتني النكوب، حتى بلغت هذا الموضع المهيب، ولو كان للبعد غاية هي أسحقُ من هذا المحل لبلّغني إليها ولم يقنع بي إلا بها". ثم كُتب تحت ذلك:
من شِدّةٍ لا يموت الفتى.. ولكن لميقاته يهلكُ
فسبحان مالك من في السما.. والأرض حقاً ولا يُملكُ
فاجتهد الشيخ في السؤال عن صاحب هذه الكتابة وحاله، فلم يفهم أحد عنه، ولا فهم أحد منه، وأقلعت السفينة بعدها دون أن يعرف الشيخ صاحب هذه الكتابة التي خلدت وانقطع ذكر كاتبها.
قصة أخرى لا تقل درامية، يرويها الأصبهاني عن خروج بعض أهل الكوفة لجمع أحجار لبيعها في أيام الزيارات والتعيش من ذلك، فأبعدوا خلال سيرهم في النجف، حتى خافوا التيه، فوجدوا بقايا مركب قديم، ولم يكن أحدهم يتخيل أن منطقة النجف كانت مكاناً مغموراً بالماء قبل ذلك، وقرأوا على أحد بقايا المركب عليها كتابة تقول: "سبحان مُجري القوارب وخالق الكواكب، المبتلي بالشدة امتحاناً والمجازي بالإحسان إحساناً، ركبت البحر في طلب الغنى، ففاتني البقا وكسر بي، وأفلتُّ على هذه الساجة، وقاسيت أهوال البحر وأمواجه، ومكثت عليها سبعة أيام، ثم ضعفت عن إمساكها فكتبت قصتي بمدية كانت في خريطتي، فرحم الله امرءاً وقعت هذه الساجة بيده فبكى لي واقتنع بالكفاف عن مثل حالي. لينقل الأصبهاني تعليقهم على ذلك بقولهم: "فعجبنا من ذلك وعلمنا أن المحن قديمة وأحوال الدنيا عجيبة".
يمتد النطاق الجغرافي لكتابات الغرباء التي يرويها الأصبهاني، من جبل بمدينة اصطخر الإيرانية الذي كتبت على صخوره عبارات هي: "رب مغبوطٍ بنعمةٍ هي داؤه، ومرحومٍ من سقمٍ هو شفاؤه، ومحمودٍ على رخاءٍ هو بلاؤه". إلى منارة الاسكندرية التي ذهب رجل من أهل الشام لزيارتها فوجدها مليئة بخطوط الغرباء، ومن بينها وجد أبياتاً تقول: "شرّدتني نوائب الأيام.. ورمتني بصائبات السهام.. لهفَ نفسي على زمانٍ تقضّى.. فكأني رأيته في المنامِ". إلى سمرقند التي وُجِد على أحد حوائطها عبارة تتأمل في علاقة الغريب بالأمكنة وعلاقة الكتابة بالغربة هي: "الغريب ينبسط في القول والفعل لاطّراحه المراقبة وأمنه في هفواته من المعاتبة". إلى حائط المسجد الحرام الذي كتب أحدهم عليه غزلاً في مغنية حسناء. إلى ديار ثمود التي وجد على صخرة بأحد جبالها كتابة منقورة بلغة قديمة ترجمتها: "يا ابن آدم ما أظلمك لنفسك، ألا ترى إلى آثار الأولين فتعتبر، وإلى عاقبة المنذرين فتزدجر"، ليكتب أحدهم تحتها بخط عربي "بلى كذا ينبغي". إلى حائط قبة أبي جعفر المنصور التي كتب أحدهم عليها تفاصيل ما فعله بعشيقه طالباً ممن يقرأ ما كتبه أن يعذره لأن "الغريب تحتمل هفواته وتغفر جناياته". إلى جزيرة قبرص التي قرأ الأخيطل على صخرة بها عبارات كتبها مسافر بغدادي تقول: قذف بي الزمان إلى هذا المكان. ثم كتب تحتها الأبيات التالية: فهل نحو بغدادٍ مَعادٌ فيشتفي.. مَشوقٌ ويحظى بالزيارة زائرُ.. إلى الله أشكو لا إلى الناس.. إنه على كشف ما ألقى من الهم قادرُ.
من حكايات الكتاب المدهشة حكاية مسافر اجتاز بإحدى المدن الجميلة في بلاد الروم، فوجد رجلاً من أهلها يحسن العربية، قال له إن شاباً من أهل العراق أقام في بلدهم سنين، ثم مرض فقام الرجل بتطبيبه، لكنه لم يلبث أن مات، فدفنه في قبة على القبلة التي أخبره باتجاهها، وكان في مرضه قد كتب على حائط بيته بعض الشعر الذي أوصى أن يتم نقله على قبره، وحين ذهب المسافر ليقرأه وجده يقول:
تعسّفت طول السير في طلب الغِنى.. فأدركني ريب الزمان كما ترى
فيا ليت شعري عن أخلّاي هل بكوا.. لفقدي أم ما منهم من به درى
فكتب المسافر الأبيات، وانصرف من الموضع حزيناً عازماً على أن يوصل تلك الأبيات إلى أهل العراق.
من حكايات الغرباء يروي الأصبهاني أيضاً حكاية وراق خرج إلى بيوت العُبّاد على جبل يلي الأهواز فقرأ على بيتٍ منها مكتوباً: حضر فلان بن فلان الكاتب هذا الموضع خائفاً هارباً مظلوماً وهو يقول: سترك سترك. ووجد تحت تلك الكتابة مكتوباً بخط آخر: "اللهم استجب دعاه، واسمع شكواه، واكشف بلواه، وردّ كل شتيتٍ عن أحبّته، وكل ذي غربةٍ يوماً إلى الوطنِ، وارحم تقطعهم في كل مهلكةٍ، وامنن بلطفك يا ذا الطَولِ والمِنِن". كما يحكي عن رجل قرأ على حائط بالبصرة عبارات كتبها أحدهم تقول: "هربت من الإملاق والحسرة، فقذف بي الزمان إلى البصرة، فكانت أعظم البلدان بركةً عليّ، كسبت بها مالاً، وعقدتُ بها حالاً، وآخيتُ فيها فتياناُ، وحصلت من أهلها إخواناً، وقضى الله لغلبة نحسي، عودي ورجوعي إلى ساوة ـ يعني بلده ـ فرحلت وأنا أقول: أترى الزمان يسرني بلقائكم، بعد التفرق والنوى بقليل"، فكتب أحد أولاد الحلال له تحت عباراته يقول: "نعم إن شاء الله".
ولعلي لا أجد مما نقله الأصبهاني عن أدب الغرباء أفضل ولا أجمل، من كتابة وجدت على حائط قصر معز الدولة قال صاحبها: "حضرت في هذا الموضع في سماط معز الدولة والدنيا عليه مقبلة، وهيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فرأيت ما يعتبر به اللبيب، ويتفكر فيه الأديب، وقلت:
لو تبقّى على الحوادث شيءٌ.. لبقى ملكه من الأشياء
كل أمرٍ وإن تطاول أو دام.. إلى نقلةٍ وحال انقضاء"
ونِعم بالله.
...
ـ أدب الغرباء لأبي الفرج الأصبهاني ـ نشره عن مخطوطة وحققه الدكتور صلاح الدين المنجد ـ دار الكتاب الجديد

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.