أحلام على أرصفة السفارات

أحلام على أرصفة السفارات

05 اغسطس 2018
+ الخط -
بجرح ونصف أغري الأبجدية لتنزف معي أو عني مآسينا، أهمل التشكيل فالجرح إن كان من وطن لا يزين، إنه مزين باسمه فقط.. أتجنّب علامات الترقيم لتصطدم الكلمات ببعضها وتموت في زحمة السير على طريق الوطن الضائع.

أقطع الأنفاس وأعيرها لمن يتسوّلها كي يعيش في بلادي، ثم أستردها لأزفرها في بلاد الغرباء، بعد أن أنتهي من كل ذلك أزف لكم نبأ استشهاد الأحلام في قلوب شبابنا الذين أُبعدوا عن الوطن طوعا أو كرها، في النهاية هم ليسوا فيه، لكنه يعيش فيهم مع كل نبضة الأحلام التي تبني قصورها دون أن تشعر أنها من رمل وكلما تطاولت في بنيانها حلما هدمته موجة غدر من بحر لم تتذوق ملحه، أو تصافحها يد من يضحك في وجهك وعند إغماضة جفنيك يجعل سقفها يحتضن أرضها لأنك أخذت شبرا من رمل أرضه، وفي أحيانٍ أخرى أكثر قسوة تهدمها نعال من يراك بعين أهل فلسطين وهم ينتظرون خروج اليهودي المحتل من قدسهم، وأقسم أن هؤلاء هم يهود القلب حين لم ترف عينهم لنزيفنا على مر السنين وانشغلوا عن موتنا بتعبئة الهواء في صناديق لنشتريها بما تبقى من أنفاسنا، فتطارد حلمك، يفلت منك .. ومن ثم تلتقطه مجددًا! تهرب به..

تحلم باللجوء! وبغير قصد تحسد كل من ركبوا البحار ونجوا من موجها وحيتانها، لكن البحر بكل موته أعرض عنا واعتذر عن استقبال جثثنا، فلا خيار لنا سوى السفارات نفترش طرقاتها، نحاول أن نبني على أرصفتها أحلامنا، يجافيك النوم شهرا لتحظى برقم يضمن دخولك إلى موظف في الباب، لتعطى بعد ذلك غفوة أمل بضع سنين حتى يُنادى برقمك من داخل تلك السفارات، رقمك نعم رقمك، فأنت في برج اغترابك لا اسم لك وإلى أن يأتي ذلك اليوم المنتظر.. تطرق أي باب تجد يأسك غافيا على عتباته، واحذر أن تعاتب من يركلك وأوراقك إلى غيره ليسددك هدفا جديدا في شباك الخذلان فيكفيك من البؤس أنك حالم باللجوء ودع العتاب يئن في قلبك مرة واحدة دون أن يقطع حبال صوتك صداه في مسامع الموظفين،
أهكذا باتت أحلامنا.. ؟! فقط اللجوء!


نبحث عمّن يستقبلنا شفقةً ويمنحنا الأمان، نطرق كل أبواب السفارات المزيّنة بكاميرات تصور خذلاننا سرًّا، وتُجاهر بتحمّل مأساتنا علنا.. ثم تطلب منك أوراقا رسمية تثبت صحة ما تدعيه، وعليك أن تأتي بها من محاكمك التي أُحرقت هي وملفاتها وعدلها، لكن بإمكانك أن تطلبها ممن يفصّلون القانون على مقاس الحرب، فتُلبّى بكل رحابة صدر ولك ما شئت إن دفعت ما شاؤوا.. ادفع بالتي هي أحسن ولا تنسَ أنك مغترب وتقطف المال من أغصان شجر الحظ الذي يخرج من بين كل حجرتين في طريقك، وأنك تلملم الياقوت من أمام منزلك الفاره كما يظنون لكنهم لا يعلمون أنك حبيس جدران أربعة لا تشبه بيتك الذي كان على قيد الحياة يوم كنت على قيد الوطن.

وأنك لا تملك سيارة تقلّك لتتفقد أحلامك على أرصفة تلك السفارات، أهذه هي كل أحلامنا أن نسعى للجوء ويصبح الوطن وراءنا وبلادنا صفحةٌ طُويت من دفتر ذكرياتنا الذي أُحرق حين داهمت إحدى القوات بيتنا بحجة البحث عن سلاح.. وسكّينُ مطبخنا لم تجرح يوما أصابعنا! بحثوا بلا جدوى فعاقبوا كل ما في المكان؟!

نحمل حقائب اغترابنا و تشرّدنا، من محطة إلى أخرى خفيفة كريشة ثقيلة كخساراتنا لأنها مهما امتلأت تبقى خالية من أمان الوطن، وعلى متن الطائرة المسافرة بنا إلى أرض اللجوء تصرخ المضيفة في آذاننا التي أصابها الصمم منذ أول قذيفةٍ دوّت في حينا: اربطوا الأحزمة وتشرح لنا قواعد الأمان والسلامة من الموت الذي كنا نصافحه عند كل مشهد وخبر عاجل، لكن كيف نشرح لها أن آلاف الأحزمة لم تعد تُهدينا الأمان الذي نُحر على آخر حدود الوطن ودفناه هناك؟!

تستضيفنا دولة ما حسب خط سير الرحلة في صدر السماء بضع سويعات من وقتها نفكر أين سنمضيها؟ ثم نهبها لصالات المطارات كي لا نزيد قائمة منافينا دولة ونُجنّب أنفسنا منّة جديدة، تبدأ الرحلة نقترب من السماء كثيرًا فنهمس في أذنها أن أبدلي رماد الأيام وصحراء العمر بتربةٍ خصبة نزهر فيها، ويمر شريط الذكريات أمام نوافذ الطائرة، تطل من بين الغمام وجوه من فارقناهم، ولا نجد في جيوب قلبنا أمنياتٍ صافية للحياة التي تنتظرنا لحظة انتهاء الرحلة، نتمنى فقط أن نودع الخوف الذي رافقنا كما ودعنا وجوه من لوّحوا لنا.

ها قد اقتربت الطائرة من الأرض، نبضات متسارعة خوف من مجهولٍ لا نستطيع تخيل ملامحه يخيم على ملامحنا ويكاد أن يمحوها، ننزل من سلّم الطائرة نجرّ هزيمة حربٍ ما أشعلنا من نيرانها سوى شمعةً تهدينا إلى هذا الظلام الأكبر، هنا في فناء هذا المطار والثلج المعانق لأبوابه ستُحاول أن تُخرج من حقيبتك قطعة تدثّر عظامك التي تطحن بعضها بعضًا، أظنك ستعيدها مكانها لأن برد الروح لا يدفئه معطف، تمشي باتجاه إحدى البوابات غير آبهٍ إلى أين ستؤدي، فكل الطرق يا عزيزي لن تؤدي إلى وطنك، تجرّ حقائبك وكأنك تجرّ جثث كل من استشهدوا أمام عينيك وكل من رأيت تلطخهم بالدماء في الشاشات.

ثقيلةٌ حمولتك أكثر مما توقعت كانت تليق بجبالٍ لا ببشر!.. تجمع لغتك العربية كلها ورشة من الإنكليزية التي تفضّلوا عليك بتعلّمها لتخاطب سائق سيارة الأجرة أن يوصلك إلى أي مكان وتفشل أن تشرح له مع أنك قد تستعمل حواسك كلها، عندها ستشعر كأنك طفلٌ صغير أضاع والديه أو أمّي مزقوا شهاداته وكأنها كانت معلّقة على جدران الحلم، تستجدي الطرقات علّها تمطر غريبًا يفهم السائق ماذا تريد، تحاول أن تبتلع غصّات تحجز خلفها أنهارًا من الدموع وصرخاتٍ عالقة في حنجرتك لا كونَ يتسع لها، تجلس على حافة الطريق غير آبهٍ بمظهرك تبكي عن سبعةٍ وثلاثين عامًا مضت.

تتأمل وجوه من ينظرون إليك بشفقة وتلعن طائرةً حملتك إليهم لتبدأ وكأن عمرك سبع سنوات، ستدخل مدارسهم وتتعلم لغتهم وتقدس ملكهم وتقبّل يدهم الممتدة إليك، ستفعل كل ما يجب فعله لتبدو مواطنا صالحا تتبناه الدول لكن بعد أن تغسل ما ترسب في دواخله من رث التقاليد والأفكار ستحاول الاندماج بكل ما أوتيت من اغتراب لكنك ستغترب أكثر، وسيل المقارنات لن يتوقف في منحدرات روحك بين فرح بسيط كنت تقتات عليه في بيتك الصغير هناك وفرح لا يمضغ كلقمة مسروقة من فم فقير في بيت لا دفء فيه.

لأننا مخلفات حرب، سنبقى واقفين على أطلال انتصاراتنا التي لم تتحقق، نحلم بالعودة لنرمم ما تهدم فينا وفي أوطاننا.
avata
رفاه عثمان العياش
أكتب المقالات في عدة مواقع ولدي مجموعة خواطر باسم "بوح الياسمين" فيها عن ياسمينة اقتلعت من أرضها ورفضت أن تموت وتذبل فسقت روحها بحروف من حبر قلبها، ورواية "أنثى على قيد الحلم" كانت رسالة لكل أنثى علقت عمرها على حبال!

مدونات أخرى