في سورية... الموت يمتحن الحقيقة

في سورية... الموت يمتحن الحقيقة

28 اغسطس 2018
+ الخط -
تبنت أغلب الأنظمة العربية الفاجرة سياسة الموت، فأماتت الأنفس والأجساد (حقيقةً ومجازاً)، وشوهت كل ما يتعلق بأسباب وجود الإنسان على الأرض وقيمته ومعناه.. ولأن التشوهات طاولت منظومة فكرنا وقيمنا فإن لحقيقة الموت وكيفية النظر إليه نصيبها من التشوه.

كنا نهاب الموت وننظر إليه وكأنه شيءٌ عرضي خارج وجودنا وحياتنا، وتعاملنا معه على أنه شرٌ مطلق، مع أننا كنا أمواتاً في فضاءِ منظومةٍ فكريةٍ مشوهةٍ روضت الأنفسَ على الضعف والهوان والذل، وجعلتها إلى الاستسلام والاستكانة إلى منظومة الفساد أقرب، وإلى اعتبار أن الأخذ بما هو جاهز من الخطابات الدينية المخدرة المسلّمة بمبدأ "لم يكن بالإمكان أفضل مما كان" أسلم وأسدد؛ فأُغتيلت الأفكار ودفن الإبداع وقُتل العقل وتاهت الروح، وغرق بعضنا في مستنقعات من مادية مستهلكة للأرواح والأفكار وانصرف بعضنا الآخر عن رسالته ومسؤوليته في معركة الوعي، وضُحي بما تبقى منا على مذبح الفقر والتجهيل والتهميش، وبتنا كلنا نسبح في فرديةٍ انسحابيةٍ مقيتةٍ.


لطالما كان موتاً قسرياً خفياً يسري بيننا، في حياتنا اليومية الروتينية في بلد أشبه ما يكون بالميت، جثة لا نبض لها ولا روح تجول فيها، تسكنه أشباح مسيرة مكبة على وجهها كالأنعام بل أضل سبيلاً، موت في أبسط المظاهر المعيشية الكريمة... كنا سجناء (سواء في السجون الحقيقية أو في السجن الكبير=البلد) في بلد ماتت به الضمائر واُمتهنت فيه الكرامة ومُنعت عنه الحرية والإرادة ضمن منظومة فاسدة مفسدة، لا معنى لوجودنا ولا قيمة لما نفعله ولا سبيل إلى الإفاقة؛ في شمس كل يوم جديد ننتظر أن لا يطلع علينا فجرنا إلا ونحن في قبرنا لنعلن استقالتنا من الحياة القسرية بل الموت القسري الخفي. كل كائن حي في بلد الموت ذاك ذاق الموت من وجه ما؛ كنا نياماً ميتين، موتتنا الصغرى، إلى أن جاءت الثورة فانتبهنا!

ربما هي فريدة في كل شيء، ومنذ كانت. هي سورية... واليوم تقدم أيضاً واحداً من أسرارها التي ليس من السهل سبر أغوارها.

ثماني سنوات من العنف المجنون والمتوحش، ولم يتغير الكثير. كلّ على موقفه وقناعاته، ويحتمي بحصونه ومتاريسه. مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين.

ملايين المهجرين والتائهين على وجوههم في اوحال الزمن الغادر تتقاذفهم اقدام المنظمات الدولية والفاسدين فيها ينهبون قوتهم ودواءهم، وتتطاول عليهم أجهزة الأمن وموظفو الأمن العام على الحدود والمعابر، و يبتزونهم بأبشع صور الابتزاز والاستهزاء والتطاول. الآلاف يندفعون الى الموت طوعاً وحباً ويقتلون، بينما تتشرد عائلاتهم ويتحول اطفالهم الى متسولين في وطنهم وأوطان الغربة ومخيماتها التي هي أقرب إلى الزرائب منها إلى مساكن للبشر. عديدون يبتلعهم البحر أو يقعون لقمة سائغة في فم تجار الموت والمهربين وتجار الأعضاء البشرية.

إن الثورة والانتفاض هما لُب الحياة، وإن الاستسلام والخنوع هما زؤام الموت. وإن الموتى بسيف الطاغية في ظل الاستسلام، أكثر عدداً بكثير ممن يسقطون دفاعاً عن مبدئهم في ظل الانتفاض، وشتان شتان ما بين ثائر وذليل.

06BF7EBD-E692-4F3F-9067-9BF9949BA3D9
محمود حاج قاسم

كاتب وصيدلي سوري... مهتم بالثورة السورية والشأن العربي.