زوجة الأستاذ تشكو تلاميذه إلى الله والقراء (1)

زوجة الأستاذ تشكو تلاميذه إلى الله والقراء (1)

29 اغسطس 2018
+ الخط -
في المطلق، ليس لهذه الدنيا أمان، لكن غدرها بأهلها يتضاعف في البلاد التي لا تحمي ذاكرتها من الضياع والتزييف. هكذا قلت لنفسي وأنا أستمع إلى زوجة الأستاذ محمد التابعي أحد أكبر الصحفيين في تاريخ الصحافة المصرية، وهي تقول لي بصوت يغالب البكاء: "الناس يسألون أولادي: هو مش أبوكم صاحب محلات التابعي بتاعة الفول والطعمية؟ هل يعقل أن يكون هذا ما يبقى من محمد التابعي؟ هل يستاهل التابعي بعد كل ما قدمه للصحافة المصرية والعربية، أن يتم نسيانه إعلامياً ورسمياً وتجاهل تراثه، ليجهله حتى الصحفيون وطلبة الإعلام فضلاً عن الناس العاديين"..

كنا وقتها في عام 1997 وكنت قبلها بأيام قد كتبت كلمة صغيرة في صفحة بريد القراء التي كنت أقوم بتحريرها في صحيفة (الدستور)، أحيي فيها ذكرى ميلاد الأستاذ محمد التابعي، الذي كنت قد قرأت للتو مجلدين كتبهما المؤرخ الصحفي صبري أبو المجد عن مشواره في الحياة والصحافة، ونشر فيهما بعض أوراق التابعي ومذكراته ورسائله الخاصة، وقد أصدرتهما دار التعاون في أواخر الثمانينات في طبعة رديئة لا تشجع على القراءة، وللأسف لم تعد طباعتهما حتى الآن لأسباب غير مفهومة.

كنت قد تعرفت قبلها بأربع سنوات على محمد التابعي، خلال دراستي لتاريخ الصحافة المصرية في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، والتي دفعتني لقراءة الصحف والمجلات القديمة التي كانت لا تزال متاحة للباحثين في دار الكتب، وكانت فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين التي أدرسها، هي الفترة التي صال فيها التابعي وجال في دنيا الصحافة والسياسة والفن، فاستحق لقب مؤسس الصحافة العربية الحديثة الذي أطلقه عليه عدد من الباحثين. كان أكثر ما شدني إلى التابعي هو أسلوبه المتفرد في الكتابة، وهو الأسلوب الذي تأثرت به أجيال من الصحفيين كان على رأسهم أسماء مثل محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وأنيس منصور وغيرهم من مشاهير الكتّاب الذين لا تملك مهما اختلفت مع مواقفهم وكتاباتهم أن تنكر تميز أساليبهم في الكتابة، حين بحثت عن كتب للتابعي في مكتبة الكلية لم أجد سوى كتاب وحيد له كانت تطبعه دار المعارف وقتها هو كتاب (من أسرار الساسة والسياسة)، لكنني وجدت له العديد من الكتب في سور الأزبكية اقتنيتها كلها، وبرغم أسلوبه الممتع في كل ما نشره من كتب في مجال القصة والرواية والسير وأدب الرحلات، إلا أن كتابه (من أسرار الساسة والسياسة) وكتابه (أسمهان تروي قصتها) تظل لهما مكانة خاصة ومتفردة في كل ما كتب عن تاريخ تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر.

محمد التابعي 


ازداد اهتمامي بشخصية التابعي حين التحقت بالعمل في مجلة (روز اليوسف) وبدأت أهتم بقراءة تاريخ المجلة ما قبل وما بعد ثورة يوليو، وكيف تطورت وتحولت علاقة محمد التابعي بالسيدة فاطمة اليوسف الفنانة المسرحية ومؤسسة مجلة (روز اليوسف) بشكل درامي مدهش في تقلباته وتفاصيله التي ستشكل بالتأكيد مادة لعمل درامي عظيم، حين تقوم الدراما المصرية من فراش مرضها الذي يوشك أن يكون عضالاً، وحين سمعت من بعض أساتذتي أن شخصية الأستاذ عبد الهادي رئيس التحرير المخضرم والداهية، والتي أبدع الأديب فتحي غانم رسمها في روايته الرائعة (زينب والعرش)، كانت مستمدة من شخصية التابعي، الذي يتهمه نقاده أنه لم يكن موهوباً فقط في الصحافة والكتابة، بل وفي الدوران مع الدنيا حيث دارت، إلا أنه برغم كل ما بذله من مجهود في خدمة (العهد الجديد)، لم ينل كل ما كان يتمناه، صحيح أنه لم يتم التخلص منه كما كان يتمنى بعض الصحفيين من أبناء العهد الجديد، بل أتاح له ضباط يوليو الاستمرار في الكتابة، ومنحوه مناصب صحفية رفيعة ظل فيها لسنوات طويلة، لكنه مع ذلك لم يتمكن من الاحتفاظ بمكانته السابقة كأهم صحفي في مصر، ليتصارع تلاميذه السابقون على مكانته بشكل أودى ببعضهم مثل مصطفى أمين إلى السجن، ودفع ببعضهم كمحمد حسنين هيكل إلى أن يكون شريكاً معنوياً في حكم البلاد، ولذلك كان من السهل أن تنزوي الأضواء عن التابعي في أواخر أيامه، ليدخل دائرة النسيان التام بعد رحيله، فلم يتحمس أحد من تلاميذه لإعادة طباعة كتبه، ولم تهتم المؤسسات الصحفية التي شارك في تأسيس مجلاتها وصحفها بتراثه الذي يضم آلاف المقالات، التي كان يمكن أن يتم جمع أهمها في كتب، مصحوبة بدراسات تقوم بتأملها وتحليل سياقاتها، لتستفيد منها الأجيال الجديدة من الصحفيين، ولو على مستوى اللغة البارعة والصياغة المتفردة.

التابعي مع السيدة روز اليوسف 


لم يخرج ما كتبته في كلمتي القصيرة عن المطالبة بإنقاذ محمد التابعي من النسيان وإعادة طبع كتبه وجمع المدفون في دار الكتب من مقالاته ليستفيد منها الصحفيون والباحثون، ولتساهم في إنقاذ مستوى المهنة المتداعي الذي كان طبيعياً أن يوصلها إلى ما صارت عليه الآن من بؤس، وفوجئت بعد صدور العدد بأيام أن الموظفة التي تستقبل المكالمات الهاتفية الواردة إلى الصحيفة، تعطيني ورقة بها رقم تليفون منزل، وتقول لي إن مدام هدى التابعي زوجة المرحوم محمد التابعي اتصلت بك، وتركت لك رقم منزلها لتتصل بها في أسرع وقت. لم أكن أتوقع أن زوجة التابعي لا تزال على قيد الحياة، فقد مر على ذكرى رحيل الرجل وقتها حوالي عشرين سنة، وقدرت أنها ربما كانت طاعنة في السن، لكنني حين حدثتها هاتفياً اكتشفت أن السيدة هدى حسن التي حملت اسم هدى التابعي بعد زواجها منه، كانت أصغر بكثير مما توقعت، فقد تزوجت التابعي وهي في السابعة عشر من عمرها بعد قصة حب عاصفة، واكتشفت أن ما كتبته أسعدها بالذات، لأنه جاء من صحيفة يصدرها مجموعة من الشباب الذين لم يعاصروا التابعي، وحين عرفت أنني حديث التخرج من كلية الإعلام وحدثتها عن معاناتي للحصول على كتبه، جاء كلامي على الجرح، خاصة أنها كانت تمر وقتها بأزمة صحية شديدة، فبدأت حديثها معي بالشكوى المرة من تلاميذ التابعي الذين "باعوه وخانوه ولم يحفظوا حرمته ولم يردوا جميله وتركوه يسقط في غياهب النسيان".

500 جنيه بس!
كانت صدمتي الأولى حين وجدت السيدة هدى تصب جام غضبها على الكاتب الراحل صبري أبو المجد الذي كشفت لي أن كل ما نشره في مجلديه عن زوجها، حصل عليه منها، ومع ذلك لم يقم بالإشارة إلى ما بذلته من مجهود معه في إصدار الكتابين، ولم يُعد إليها كل الوثائق النادرة التي قامت بإعطائها له، برغم تشديدها في التأكيد على ذلك حين سلمتها له، ولم يهتم بإصدار الكتابين من مؤسسة كبرى تقوم بإخراجهما على أكمل وجه، وتنشر معهما صوراً للوثائق التي قدمتها له، والتي تكتسب أهميتها من كونها تنشر لأول مرة، وتلقي الضوء على الدور الذي لعبه محمد التابعي في فترة شديدة الأهمية من تاريخ مصر، "اللي حصل لي بعد الكتابين جاب لي حالة اكتئاب شديد، وسد نفسي عن كل حاجة، ومع إني كنت متحمسة إني أدي له وثائق كتيرة جديدة، لكن لما سألته فين المجلدات اللي فيها شغل التابعي، قال لي هو أنا حرامي يا مدام، فما رضيتش أدي له أوراق أو وثائق تانية، بعدها عرض عليّ ناس كتير إنهم ياخدوا اللي عندي من أوراق التابعي ومشاريعه اللي ما اكتملتش، رفضت، ولو جابوا لي ملايين الدنيا هارفضها، وهاخلي الحاجات عندي لغاية ما يبقى في مؤسسة محترمة تتبنى التوثيق لتاريخ الصحافة ومشوار محمد التابعي، وساعتها هاحط كل اللي عندي من أوراق ووثائق تحت تصرفها". للأسف لم يحدث ذلك على حد علمي حتى الآن، ولذلك أتمنى أن تبادر مكتبة الإسكندرية مشكورة للتواصل مع ورثة التابعي للحصول على ما لم ينشر من وثائقه وأوراقه الخاصة، وهو كثير كما قالت لي السيدة هدى، وكنت أمني النفس بالحصول على بعضه لنشره، لكنني لم أوفق في ذلك لأسباب سأذكرها في نهاية حديثي، فكانت بعض تلك الوثائق من نصيب الكاتب محمود صلاح بعد أن تولى رئاسة تحرير مجلة (آخر ساعة) التي أنشأها التابعي، فاتصلت به السيدة هدى ومنحته ما لديها من وثائق نشرها في كتابه الممتع (حكايات وأسرار في بلاط صاحبة الجلالة) الصادر عن دار الشروق والذي حكى في مقدمته أن السيدة هدى كانت قد طردته من بيتها بعد رحيل التابعي، وكان صحفيا تحت التمرين وقتها، وذلك حين عرفت أنه قادم من طرف مصطفى أمين.

حين سألت السيدة هدى عما إذا كانت على الأقل قد حصلت على مقابل مادي نظير الكتابين الذين أصدرهما صبري أبو المجد قالت لي غاضبة: "أقول لك يا سيدي، جه صبري أبو المجد في يوم بعد ما طلّعنا الكتاب الأول وبنحضر للكتاب التاني، ولقيته بيقولي ليكي مبلغ من دار التعاون، سألته بالمناسبة همّ ادوك كام؟ قال لي ألف جنيه ليكي نصفها، بس أنا لإني ما عملتش حاجة، اقترحت تاخدي المبلغ كله، لكن هما قالوا لي نصيب المدام 500 جنيه بس، وأنا هابعتهم لحضرتك مع السواق ومعاهم صورة العقد، بعد كده عرفت من الأستاذ سعيد نور الدين أن صبري أبو المجد حصل على 8 آلاف جنيه من دار التعاون، وللأسف يمكن عيبي إني ست مش بتاعة فلوس، لإننا عايشين في عصر مادي، وبقيت أقول لنفسي لو تغاضيت عن حق أولادي لا أستحق الحياة، ومع ذلك ما لقيتش اللي يساندني لما حبيت آخد حقي".

هدى بين التابعي الكبير والتابعي جونيور 


كان صوتها محتقناً وينذر برغبة حادة في البكاء، فأردت تخفيف حدة الحوار بسؤالها عن أبناء محمد التابعي، فقالت لي: "ربنا رزقنا بولد اسمه محمد أو التابعي جونيور، قرر لفترة أن يعمل في الصحافة بعد رحيل أبيه، وبدأ العمل في الأهرام بفضل شهامة الكاتب صلاح جلال اللي كان من تلاميذ التابعي الأوفياء القليلين، ومع إن صلاح كان مسانده وبيشجعه إنه يكتب في اللي هو عايزه، لكنه لم يتأقلم مع الأجواء، بدأ بالكتابة في الصفحة الدينية، لما لقى إن الكتابة السياسية قاصرة في الأهرام على أسماء معينة، وبعد فترة ساب الأهرام وقال لي هاعيش أقرأ وأصلي وأصوم وأتوجه إلى الله. ورزقنا كمان ببنت اسمها شريفة، درست الإعلام بس ما اشتغلتش في الصحافة". قالت لي السيدة هدى أن شريفة ابنتهما تزوجت من مواطن فرنسي، لكنني بعد ذلك قرأت أنها متزوجة من السفير محمد خيرت سفير مصر السابق بكولومبيا وقطر، وكنت قد عثرت في أحد أعداد مجلة المصور في نهاية السبعينات على صورة لها في حفل خطوبتها من المهندس عاصم الشافعي، وقد أسعدني أن أجد منها في السنوات الأخيرة اهتماماً بتراث أبيها، فقد كانت وراء إعادة طباعة بعض كتبه عن دار الشروق، وطلبت من تلميذه محمد حسنين هيكل أن يقوم بكتابة مقدمة لها، كما أنشأت على الفيس بوك صفحة متخصصة في نشر مقالاته القديمة، وقد عرفت من أحد حواراتها أن أخاها محمد توفي في عام 2001 بعد أن عانى لفترة من تدهور حالته الصحية.

شريفة التابعي مع خطيبها المهندس عاصم الشافعي 


بأمر الرئيس
اقتضى ما قالته السيدة هدى عن أبنائها سؤالاً عاجلاً وساذجاً عن مصدر دخل الأسرة وما إذا كانوا يعتمدون مثلاً على عوائد كتب التابعي التي تركها في مرحلة سابقة، كان فيها الكاتب الأكثر انتشاراً في مصر، فقالت لي بغضب: "المفاجأة اللي عايزة أقولها لك، إني لم يدخل لي أي عائد من أي كتاب من كتب التابعي من يوم ما رحل وحتى الآن، بما فيهم أعظم ما كتبه التابعي في رأيي، وهو كتاب (من أسرار الساسة والسياسة) الذي طبعته دار المعارف، وأعتقد أن التابعي كتب فيه ما لم يكتبه غيره ومقدمته هي أكثر ما أحبه من كتابة التابعي، ومع ذلك لا يصلني شيء من عوائد الكتاب"، ثم بعد صمت تستطرد قائلة: "في يوم لقيت أنيس منصور بيتصل بيا ويسألني: انتي بِعتي لمحسن محمد قصة من قصص التابعي؟ قلت له مين محسن محمد أنا ما أعرفوش، قال لي: أصله وراني قصة بخط يد التابعي هينشرها في الجمهورية اللي كان رئيس تحريرها وقالي إنه خدها من أسرة التابعي، قلت له يبقى ما لوش حق فيها، جابها منين؟ قال لي أنيس طيب أنا هاشتريها وهاتعامل مع التابعي زي طه حسين، قلت له بغضب: التابعي حاجة وطه حسين حاجة تانية مع احترامي، مش طه حسين ده اللي قال إن الملك فاروق من سلالة الرسول، أما التابعي وقف في وش الملك في عز جبروته، ما فيش حد زي التابعي يا أنيس، كنا وقتها في رمضان، فبعت لي الأستاذ يوسف فندي من دار المعارف عشان يمضي عقد لطبع كتاب أسرار الساسة والسياسة، ولما رفضت، اتضح إن ورا اهتمامه بالتابعي قصة، لإني لقيت يوسف فندي بيقول لي أصل الأستاذ أنيس قال له إن ده أمر من الرئيس السادات إن الكتاب يتطبع، وكان السادات قبلها في مايو 1978 خلى مندوب من الرئاسة يتصل بيا عشان يحصل على نسخة من الكتاب عشان الرئيس السادات عايز يقراه، وبعثت له الكتاب بإهداء، وعشان كده لما قالي مسئول دار المعارف إن الرئيس أمر بإعادة طبع الكتاب، قلت له أنا هانفذ الرغبة دي بس عشان السادات كان بيحب التابعي، ولا أنسى له إنه واساني لما رحل التابعي، واتصل مندوب من الرئاسة بيا عشان يواسيني، وجنازة التابعي كانت على نفقة الدولة، وعشان كده أنا هاوافق إنكم تطبعوا الكتاب، وجاني مندوب من دار المعارف يتفق معايا على الفلوس، وقال لي احنا مديونين في الدار بس هنديكي في الكتاب حوالي 400 جنيه، لقيت الرقم لا يليق فقلت لهم مستعدة أديكو الكتاب هدية، قال لي لأ الريس هيودينا في داهية، ولازم تاخدي الفلوس، وكمان خدوا من الفلوس 80 جنيه بحجة الضرائب".

طلبت السيدة هدى التوقف عن الحديث للحظات لتشرب كوباً من الماء، وكنت قد قررت أن أواصل الاستماع إليها دون تعليق على ما تقوله أياً كان، وألا أتطوع بتوجيه أي أسئلة حتى تنتهي من كلامها لكي لا أقوم بتشتيتها، وبعد لحظات عادت للحديث قائلة بغضب: "أنا بقى عايزة أسأل أنيس منصور اللي عارفة إنه ساب دار المعارف بس توقيع عقد الكتاب كان على إيده، هل تسمح حد يعمل مع كتبك كده، خاصة إنهم طبعوا الكتاب تاني وتالت وعاشر ولا سألوا فيا، يعني افرض إني أنا ست ربنا مش ساترها معايا، وما عنديش فلوس، تفتكر إني باخد معاش يكفيني، نقابة الصحفيين بتدوني دلوقتي 150 جنيه، كانوا أكتر من كده، لكن لما شريفة بنتي اتجوزت نقصوا الفلوس، كلمت مكرم محمد أحمد ـ كان النقيب وقتها ـ قال لي أصل ده القانون، قلت له كان التابعي قال لي أول درس في القانون هو إن القانون حمار، تخيل إن دي طريقة التعامل مع محمد التابعي اللي كان لازم يبقى له معاش استثنائي بعد اللي عمله لمهنة الصحافة وبعد مشاركته في تأسيس النقابة، ده يكفي إنه خلى يبقى لمهنة الصحفي احترام، وبعد ما كان الكل بيتعامل معه باحتقار وترفع، بقى الصحفي على حس محمد التابعي يحط رجل على رجل قصاد الباشوات والكبارات، مش كان لازم يبقى للتابعي وضع خاص، ليه ما حدش فكر يراعيه، أنا كان ممكن أبيع تراث التابعي للخليج أو للأجانب لكني ما قدرتش أعمل كده، جالي باحث نرويجي، وفتحت له الباب بالصدفة، لإني كنت مستنية حد يديني حقنة، لقيت قدامي خواجة عايز يتكلم عن أسمهان، قلت له لو كنت على استعداد تدفع مقابل مادي يبقى ماشي، قال لي مش هادفع من غير ما أقرأ، كنت على وشك إني هاطلب عشرة آلاف جنيه، لكن بعد كده زعلت إني هاعمل كده، فخليته يقرا كل حاجة من غير ولا مليم، ولا زلت مستنية إن التابعي يتقدر من بلده وفي بلده".

بين هدى وأسمهان
ساعدني ذكر السيدة هدى لاسم أسمهان على الدخول في سؤال كنت أتهيب طرحه، فقلت لها أنني سأستغل كرمها معي لأسألها دون مقدمات طويلة عن قصة غرام أسمهان والتابعي، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها صوت ضحكتها، لتقول لي بعدها: "لعلمك أنا ما باتعاملش مع الموضوع ده بحساسية مفرطة زي ما ناس كتيرة بتتصور، مش لإني مش باغير على التابعي، ولكن لإنه بالعقل كده كان موضوع سابق على علاقتي بالتابعي، صحيح أنا كنت محظوظة بالتابعي أكتر من أسمهان، وباحمد ربنا على كده، يعني هاقولك حاجة ما حدش كتير يعرفها وهي إن أسمهان لما حصل لها حادثة العربية اللي قتلتها، كانت رايحة راس البر عشان تصالح التابعي بعد ما كان زعلان منها، وكانت راكبة عربية تحية كاريوكا، كان التابعي في راس البر وكانت رايحة له، يعني ماتت وهي في طريقها ليه، طبعا التابعي كان بيقول لي أسمهان دي حبها كان زي السيجارة، يعني أقدر أستغنى عنه، لكن أنا اعتقادي إنه أحبها جداً، وكان واضح من كلامه عنها ومن كتابه اللي لما تقراه هتلاقي كل كلمة فيه تنطق بالحب".

أسمهان والتابعي على البلاج 


حين سألت السيدة هدى كيف ومتى تعرفت على محمد التابعي، ضحكت ضحكة عريضة وهي تقول إن أسمهان بالتحديد كانت هي التي عرفتها على التابعي، ولكن بعد مصرعها، لأنها رغبت في مناقشة مقالاته عن أسمهان، وكانت تلك المقالات هي التي دفعتها إلى الاتصال به كقارئة متابعة، "اتعرفت عليه سنة 49، كنت صغيرة جداً، ومع إن المقالات اللي كتبها عن أسمهان عجبتني جداً في أسلوب كتابتها، لكن كان فيها حاجات ما عجبتنيش، فاتصلت به في التليفون، وقلت له أنا عايزة أناقشك في كذا وكذا، وفوجئت إنه بيقول لي تحبي تيجي لي المكتب، الظاهر إنه ما كانش متعود إن حد يقول له ملاحظات بقوة من غير مجاملة، رحت له المكتب وقلت له رأيي بصراحة وتأثر بكلامي وقعد يناقشني، وبدأت علاقة صداقة تحولت لإعجاب وبعدين لحب، وبعد 3 سنين اتجوزنا، في الأول كنت باقول له أونكل، وبعدين اتعودنا على بعض، كنت باقول له انت اتعودت عليّ زي ما أنا اتعودت على لاري، القط بتاعي، خلال السنين التلاتة دي حكى لي قصة حياته كلها بكل تفاصيلها، لما طلب مني الجواز قلت له أنا ما أعرفش لسه يعني إيه جواز، أنا باحبك وبس، لقى أول واحدة في حياته ترفض الجواز منه فده اللي خلاه حبني أكتر، كنت وقتها طالبة في الإنجليش سكول، ولقى إن عقلي كبير مع إني صغيرة، المهم جدد عرضه بالجواز، قلت له نتخطب ونقرب من بعض أكتر، أمتحنك وتمتحنني، اتجوزنا سنة 52 لكن قبل ما تقوم الثورة وما عملناش فرح ولا حاجة، كتبنا الكتاب وطلعنا أوروبا على طول، والحمد لله استمر حبنا لحد 24 ديسمبر سنة 76، يعني لآخر لحظة من حياته اللي انتهت بين أحضاني".

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.