تركيا... الخروج من عنق الزجاجة

تركيا... الخروج من عنق الزجاجة

26 اغسطس 2018
+ الخط -
لم تكن العلاقات التركية مع أوروبا أو الولايات المتحدة على خط تاريخها ذات معالم واضحة، فسعي تركيا الدائم منذ قيامها لخلق شخصية خاصة بها، تتوافق فيها السمات الأوروآسياوية والإرث العثماني مع سمات الدولة الليبرالية الحديثة، سبباً في جعلها إحدى القوى المؤثرة في النظام العالمي ومحطاً لتجاذب القوى الإقليمي والعالمية على اختلافها.

وتمثلت محاولات حكام تركيا على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والأيديولوجية في خلق هذه الشخصية، فعقب الحرب العالمية الأولى حاول أتاتورك التملّص من الشخصية الشرقية والاتجاه نحو الغرب، من دون الالتفات للقواعد الشعبية الكبيرة المتمسكة بأصولها الشرقية والدينية، بينما شهدت الألفية تحولاً كبيراً في تلك السياسات، إذ اتجهت تركيا نحو الشرق الذي مثل لها إرثاً عثمانياً، من دون الانسلاخ من التجربة الأوروبية، وقد تجسّدت تلك الصورة لتركيا من خلال سياسات أردوغان الجامعة بين تلك السمات مع التوجه القوي نحو بناء قوة اقتصادية هائلة، مكنتها من أن تكون إحدى القوى المؤثرة في العالم، ومن الصمود حتى الآن في وجه الأزمة الحالية الممتثلة بانهيار الليرة.

وبدأت الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة على خلفيه رفض تركيا تسليم القس الأميركي أندرو برنستون المعتقل في تركيا، بتهمة التعاون مع فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني في التخطيط للانقلاب الأخير، وكانت تركيا قد طالبت الولايات المتحدة بتسليم فتح الله غولن المعروف بخصومته لأردوغان والمتهم الأول في التخطيط للانقلاب، والذي اتخذ من الولايات المتحدة مكاناً للإقامة منذ عام 1999م، إلا أن الأخيرة رفضت بحجة نقص الأدلة، ما دفع تركيا لاتخاذ إجراء مماثل وهو رفض تسليم برنستون، فتخطت هذه الأزمة في أهميتها الأبعاد الاقتصادية والسياسية والحدود الجغرافية لتركيا لتمتد إلى العالم أجمع، محدثة تغييرات غير متوقعة في مسلمات اللعبة السياسية.


واجهت تركيا فرض العقوبات من قبل الولايات المتحدة بمزيد من العناد والاندفاع نحو كل من روسيا وإيران، وكذلك الصين، فقطعت تركيا حصار إيران بإعلان شرائها الغاز الإيراني، كما شجّعت على الإنتاج المحلي والتصدير، والاعتماد على الأسواق الآسيوية في استيراد الإلكترونيات وغيرها، وكل ذلك باستخدام الليرة التركية بدلاً من الدولار.

وساهم عدم انضواء تركيا ضمن الاتحاد الأوروبي في الابتعاد قليلاً عن قيود العملة الموحدة، التي كانت ستحد من حركتها وعدم قدرتها على التبادل التجاري والاقتصادي بمرونة أكبر، فخلق لها حماية من الوقوع في دوامة السياسات الأميركية المتسمة حالياً بالطابع الشعبوي (أميركا أولاً).

ويتجاوز بعض المحللين مسألة العداء بين تركيا والولايات المتحدة لتلك الأسباب، إلى رغبة أميركا الحقيقية في تضييق الخناق على التنين الصيني الصاعد بقوة والمهدد لأميركا كقوى وحيدة وعظمى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، عن طريق خلق أزمات اقتصادية لحلفاء الصين الاستراتيجيين أو من تربطهم بها علاقة اقتصاد قوية كتركيا، فسياسات ترامب المتطرفة وعداواته المستحدثة مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين ساهمت بشكل كبير في تقريب المسافات بين أوروبا، ممثلة بألمانيا، وبين وروسيا والصين، (في محاولة لكبح جماح تهور سياسات البيت الأبيض).

غير أن البعض الآخر يجد في سياسات تركيا عجزاً في قراءة الواقع بشكل سليم، فتركيا تعاني من أزمة حقيقة، وهي في حقيقة الأمر لن تكون قادرة على مواجهة الولايات المتحدة التي تفرض سيطرتها على المحيط الإقليمي لتركيا، وتوجد توقعات بعدم استطاعة الليرة التعافي التام والعودة إلى قوتها السابقة حتى في حال انتهاء هذه الأزمة.

وفي حال استطاعت تركيا تخطي هذه الأزمة، من دون اللجوء إلى الحلول السياسية، (وهو أمر مستبعد إلى حد ما)، فإن ذلك سيعود بنتائج سلبية على الاقتصاد الأميركي وهيمنته في المستقبل، إذ سيلعب كسر احتكار الدولار على التبادل التجاري والاقتصادي العالمي، إلى إضعاف الاقتصاد الأميركي وتراجع الهيمنة الأميركية على العالم، إذ تتجه تركيا إلى ضخ مزيد من الاستثمارات ودعم القطاعات الاقتصادية في الداخل وفتح السوق أمام المنتجات الصينية والكورية، بالاعتماد على الليرة التركية، ومن جهة أخرى، ولأول مرة في التاريخ، بدأت الصين بالتعامل التجاري والاقتصادي بالاستناد إلى العملة الوطنية، متمثلة بشراء النفط الإيراني باليوان بدلاً من الدولار.

ويبقى السؤال الأهم هو حول الخطوات التي سيتخذها الاتحاد الأوروبي في هذه الأزمة، فالترابط الاقتصادي بين تركيا والاتحاد الأوروبي قد أعاد معضلة الاتحاد إلى الواجهة، فقد اتهم الاتحاد الأوروبي بعدم قدرته على تجنّب المشكلات الاقتصادية وعدم قدرته على حلها كما هو الحال مع اليونان، فالأهمية التي تتمتع بها تركيا تفرض الكثير على الأوروبيين في التحرك الجاد لتخفيف من حدة هذه الأزمة، فتركيا تمثل البوابة الشرقية لأوروبا، وتمتلك مفاتيح جوهرية تتمثل في مسألة الأمن، سواء بتهديد التنظيمات الإرهابية كداعش أو عبء المهاجرين، والأهم كونها الدعم الأكبر لحلف الناتو في مواجهة الأخطار التي تتهدّد القارة العجوز.

فهل سيتجه الاتحاد الأوروبي للخروج من العباءة الأميركية، وتجاوز المخاوف تجاه العدو المتخيل (روسيا)، وهو ما يعني توصل الاتحاد الأوروبي مع روسيا إلى تقارب في القضايا الأمنية، الأمر الذي يعني التخفيف من الهيمنة الأميركية على القرارات والتوجهات في السياسة الخارجية للاتحاد، وأولى هذه الخطوات تتجسد فيما دعا إليه الرئيس الفرنسي ماكرون حول إنشاء قوة دفاعية لأوروبا خارج حلف الأطلسي الذي تسيطر أميركا من خلاله على سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية، أم سيبقى حبيساً لفكرة السلمية التي تأسس عليها ورهناً للمخاوف الآتية من الحليف الأول الولايات المتحدة الأميركية؟
925AA983-BE52-4673-A037-68AF75356163
إيمان غالب

طالبة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وباحثة مهتمة بالشؤون الدولية.