أصديقك مبنيٌّ أم مُعربٌ؟

أصديقك مبنيٌّ أم مُعربٌ؟

25 اغسطس 2018
+ الخط -

في حصة النحو، كان درسنا عن المبني والمعرب، وكان معلمنا يحدد لنا الأهداف ويضرب لنا الأمثال؛ ليقرب الفهم من عقولنا، يقول معلمنا: إن الاسم المبني لا تتغير حركة إعرابه مهما كان موقعه في الجملة، ويسرد لنا بعض الأمثال ويقول، المبني مثل: «الذي، الذين، هذا، هذه، التي، والقائمة تطول» كلها أسماء لا تتغير حركة إعرابها أبدا، ومن ثم ينتقل للاسم المعرب ويحدثنا أن هذه الأسماء تتغير حركاتها بحسب موقعها في الجملة، ويذكر لنا بعض الأمثال ويقول، الأسماء المعربة مثل: «مدرسة، خالد، مدير، معلم، وكل اسم تتغير حركة آخره بحسب موقعها الإعرابي في الجملة» لا يكتفي معلمنا بهذا، فبدأ يبسّط لنا ويضرب الأمثال على أرض الواقع، يقول معلمنا: هناك شابان، شابٌ يبقى على عادته التي نشأ عليها مهما تغيّرت ظروفه، ولا يتأثر بمن هم حوله من الأصدقاء، وذلك يشبه المبني من الأسماء، وشاب آخر، يميل كلما مالت الريح، ويسقط مع سقوط أوراق الشجر، فهو يتأثر بالعوامل المحيطة، وذلك يشبه المعرب من الأسماء، وبهذا الشّرح يضمن المعلم وصول المعلومة وترسخها في عقولنا لسنوات عديدة، وكان له ما أراد. 


إنّ الدنيا تحتاجُ للرفاقِ، وما أكثرهم حين تعدهم، يقول الشاعر: 

«فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم — وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ» أن تمشي في الطريق وحدك هذا أمرٌ صعب، لطالما بحثنا عن صديق يقفُ معنا في الشدّة، وينصحنا في الزّلة، يكون مخلصا في مودته، ويُنير بقلبه ظلام الدنيا، لنتمكن من السيّر في الطرقات بلا خوفٍ أو تردد، ويمحو سوادًا يغطي منهجنا في الحياة، نحن نشبه البحر، فالبحر لا تعرف عنه إلا اسمه فأنت تحتاج للغوص في أعماقه لمعرفة خباياه، والجماليات التي تسكن في قاعه، وهذا ينطبق تمامًا على الإنسان، فأنت تحكم عليه من ظاهره لا باطنه، ومن شكله لا جوهره، وتحكم عليه كذلك من باديه قبل خافيه.


إنّ الصديق أو الذي تسميه صاحبًا، هو مصباح دربك الذي يُضيء لك في الظلمات، ولم تكن في يومٍ من الأيام العبرة في كثرة الأصدقاء، بل تتجسدُ العبرة في الحقيقة التي تكمن بداخل قلوب من يسمون أصدقاء، فالصداقة التي يكون التكلّف هو عنوانها لا تعد صداقة، والصداقة تعتبر درجتها رفيعة ومحمودة، يقول أحدهم: «الصداقة هي الوجه الآخر غير البرّاق للحب، ولكنه الوجه الذي لا يصدأ» ويقول الشاعر: «إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة —فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا» فالحب بين الأصدقاء يجب أن يكون مطبوعا في داخلهم وليس مصنوعا متكلفا، فهو حب دون مصلحة مادية أو معنوية، فمن فوائد الصداقة أنه يزداد علمك، وتثبت أخلاقك، وتبقى مستقيما في صلاحك، فيزداد رفعك بين الناس، وكل هذا عندما يكون الصديق مثالا يقتدى به، يقول الشاعر: «واخترْ قرينَكَ واصطنعهُ تفاخراً — إنَّ القريـنَ إلى المُقارنِ يُنسبُ».


في هذه الحياة أبحرنا كثيرا في بحر الأصدقاء، استخرجنا اللؤلؤ والمرجان، وظهرت معنا الكنوز، وعلى النقيض من ذلك وجدنا الصدف، وأشياء أخرى لا فائدة منها، لقد وجدت أصدقاء هم أنقى من ضوء القمر، وأصفى من الماء الزلال، وأشهى من رائحة العطر، حتى ما ألفتهم يوما إلا إخوة، وما اعتدتُ عليهم إلا شيئًا من دمي، فأراهم فأجد نفسي تسكنُ وقلبي يطمئن، فطوبى لهم من أصدقاء؛ قد طابت سيرتهم وحسنت خليقتهم، لم يتغيروا أبدا رغم الظروف، وعلى الرغم من أن هذه الدنيا تقيل وتقعد وتغلو الأشياء وترخص، بقوا ثابتين لا يتأثرون، فعندما أراهم تعود بي الذاكرة إلى معلمي وشرحه لدرس المبني والمعرب، أتذكر المبني وكيف أنه لا يتغير مهما كان موقعه في الجملة، وأتذكر مثاله الذي ضربه على الأصدقاء الثابتين، فوجدتُ نفسي تملك أصدقاء يمتلكون ميّزة البناء، فكلما رأيتهم يجيءُ على خاطري هذا الدرس وكيف بسّط معلمنا شرحه بضرب مثال من الواقع، وكم وجدنا أشخاصا كنا نعدهم أصدقاء، فكانوا هم أجدر بأن يأخذوا صفة الأسماء المعربة، فهؤلاء هم الذين يميلون كلما تميل الريح، ويتغيرون كلما تغيرت ظرفهم، ولا يثبتون على أمر واحد، فما أكثر الدروس التي تعلمناها أثناء الدارسة والتي كان يجب على مُعطيها تقريبها من الواقع ليزداد الفهم ويطيل ثباتها في العقل، وفي نهاية الحديث ننهي بما قاله الشاعر: «من لم تُجانسه فاحذرْ أن تُجالسه ما ضرَّ بالشمعِ إلا صحبة الفتلِ».