ليلة الكيماوي

ليلة الكيماوي

20 اغسطس 2018
+ الخط -
فطور
عمرها خمس سنوات، قالت لأمها أطعميني، والبيت خالٍ منذ أيام من الطعام، الأمهات لا يكذبن، ولكن هذه الأم اضطرت أن تعدها بفطور (محرز) في الصباح عندما تستيقظ..

احتضنت دميتها المطرزة العينين الكبيرتين والفم الأحمر، تلك التي كانت وسادة أمها وقد طرزتها بعد أن تخلت عنها لأنها تفضل النوم دون وسادة كما تقول، ضمتها ونامت، تحلم بفطورٍ لن يكون..

ذات الخمس سنوات ما استيقظت وما وضعت أمها الفطور اللذيذ.. السُّم أبقاهما نائمتين.

الكيس
عمره سبع سنين.. الكهرباء مقطوعة بالبيت، لم يعد يذكر متى آخر مرة رأى فيها نور المصباح، يخاف كثيراً من أصوات القنابل المنهمرة على القرى القريبة والبعيدة. أصبح يعرف أسماء القذائف ويميزها من دوي الانفجار تقلب كثيراً قبل أن يغلبه النعاس، وبدأ يحلم..

أطفال الحارة.. كرة جديدة.. والده العائد من العمل ومعه (الكيس الأبيض) وما يحتويه من أكياس البطاطا المقرمشة والشوكولا و.. تقلب فجأةً ثم هدأ ... هدأ للأبد، السم خنق الحلم، وخنق أطفال الحارة، ولوّث الكيس الأبيض.. للأبد.

حَرّ
عمره ثمانية عشر عاماً.. نام على بلاط السلم في بيته الريفي ذي الطابقين الصغيرين، فالصيف يشبه جهنم بلا كهرباء، والغرف مكتظةٌ بأنفاس إخوته، سمع صوت ارتطامٍ قريب.. نزل ليطمئن على أهله.. اشتم رائحةً ليست تشبه أنفاس إخوته في الغرف..


قدماه ما عادت تحمله.. شاهد ببطءٍ شديد لا ينتهي درجات السلم وهو يسقط درجةً درجة.. ولم يستطع رغم زنديه القويين أن يوقف السقوط أو يحدّ من قوته، مذهولاً يرى ويحس بكل شيءٍ لكنه لا يستطيع الحراك، انتظر طويلاً كي يخرج أحدٌ من إخوته على صوت سقوطه ليساعده على النهوض.. لكن أحداً لم يأت.

لم يعد ذو الثمانية عشر ربيعاً يرى ولم يعد قادراً حتى على الفهم.. السم خنق النظر.. وخنق الغرف بمن فيها.

خاتم زفاف
صبيةٌ ذات عشرين.. كليلكةٍ تتفتح على غصنٍ نضر، ساهرةٌ تفكر بصاحب خاتمها الصغير الذي يحتضن بِنصر كفها الأيمن.. تسرح بحياءٍ مع تعليقات أخواتها عن حياتها بعد أن يسكن الخاتم إصبعاً في يسارها..

رائحةٌ قطعت سلاسل الكلمات الرقيقة وأوقفت ذلك الزمن الصبي عن الهرولة بين الحروف والضحكات، نهضت لتستنشق الهواء.. فاستنشقها الهواء دفعةً واحدة، وذبلت عن غصنها النضر على أرضٍ لزجةٍ بجانب أبويها الذاهلين موتاً، وأخواتها اللاتي أطفأ السم نورهن الباسم..

ابنة العشرين قمراً اختنق حلمها بالسم.. واختنق بإصبعها خاتم الزفاف.

عجز
في المشفى الميداني تقبع آلاف الحالات.. رجلٌ في العقد الثالث يسبح في الزبد المتدفق من فمه، وطبيبٌ يسعفه مكبلٌ بألف قيدٍ من عجز تتدفق من عينيه ألف دمعةٍ خرساء.. لا الزّبد ولا السّم استطاعا أن يخرسا كلمة (يـــا اللــــه) التي عرّشت على شفاه الثلاثينيّ..

لكن ألف غصةٍ أحاطت المكان.. فلا المخنوق قادرٌ على الصمت ولا المسعف قادرٌ على الكلام، الرجل الثلاثينيّ بقي ساعتين ونصف يصارع السم.. حتى صمتت شفتاه عن (يـــا اللــــه).

عدوى
طبيب في العقد الخامس.. متمرسٌ مخضرمٌ حازم، أسعف مئات الحالات.. لم يتأفف ولم يتعب، بعد طلوع الشمس قرر أن يأخذ استراحةً لدقائق بعد أن عاتبته سنوه الخمسون، في تلك الدقائق أحرجه الزبد الأبيض الذي ظهر على شفتيه.. أصابته عدوى السم، ولم يستطع باقى الأطباء والمسعفين الحيلولة دون سقوطه..


طالت استراحة الطبيب الخمسيني، حتى أن زملاءه بكوه..

كاميرا
لم يكن قريباً من منبع السم لكن إحساسه بالمسؤولية نخزه كشوكٍ في الحلق.. حمل كاميرته وهاتفه النقال وهرع للمشفى الميداني، متخيلاً أنه سيعرف كيف يمارس دوره بالتوثيق ككل مرةٍ تلي انفجاراً ما..

لكنه في هذه الـ(ما).. ضاع.. تنقل بين المسمومين.. بكى.. صرخ.. صور.. صور كثيراً بتركيز اللقطة وبدون تركيز.. سعل كثيراً.. اختنق، ثم عاد ليبكي لكن دون دموع..

صمت.. السم أسكته والكاميرا مازالت توثّق.. قُتل الحرف وخُنق الصوت.. لم تفارقه الروح.. لكنه يسأل نفسه كل يوم: هل أُعدّ حياً!

أم العريس

حيث جمعوا الشهداء على الأرض الإسمنتية في المبنى المهدم، كانت هناك عجوزٌ تحوم بين الأجساد العارية من الأرواح، ترتدي (مانطو) قديما عشش غبار الصبا بين ثناياه تبحث عن ابنها العريس..

رفعت كل غطاءٍ عن وجوه أبناء قريتها وبكتهم جميعهم حتى وجدته.. احتضنته.. قبلته.. لم يمح السم رائحة عرقك يا كبدي.. قالت له!


مبكراً يا بني.. مبكراً استبدلت حناني بحنان الله (يا مرضي ربي يرضى عليك).. وعلى صدره غفت.. أم العريس ما خنقها السم.. خنقها الوداع، ففضلت أن تشارك العريس زفّته إلى السماء.

جنازة
تشييع مئات الشهداء بغاز السم (الكلور والسارين).. عرسٌ هزّ السماء قبل الأرض.. وهز قلوب أولاد البلد.. الأرض كلها تسممت.. لكن السماء امتلأت طهرا.. آلالف العائلات كل عائلةٍ تزف شهيداً وبعضها أكثر من شهيدٍ واحد.. صَعُبَ عليهم تصديق ما حصل.. السم لو لم تستنشقه يمنع العقل أن يصدّق!

موتى
أمام شاشته الكبيرة جلس يأكل أظافره، يتابع ما حدث أثناء نومه تحت التكييف في ليلةٍ حارة، ما عاد يحتمل ما يرى.. أشعل سيكارة.. رفع سماعة هاتفه: ألو.. كيف حالكِ.. أرأيت ما حصل؟!..

منذ الصباح وأنا أشاهد الأخبار.. حسبي الله، تعبت نفسيتي والله.. هل نتناول الطعام خارجا اليوم!.. قتلنا الهم والحزن.. سأمرّ لأصطحبكِ.

سلامات
أطفأ الشاشة.. تناول مفاتيح سيارته الفارهة.. وداخل قمرتها المكيفة، ابتسم على أنغام أغنيته المحببة: السم لا يقتل هؤلاء .. هم بالأصل موتى!.
E594284C-6860-435C-8F32-5DF10890CBB1
محمد وسيم عباس

مصور سوري... أعمل بمجال الإعلام المرئي في تركيا، وبصدد توثيق قصص أبرز شهداء الثورة السورية.

مدونات أخرى