مواطن سوري في سجن سويسري

مواطن سوري في سجن سويسري

16 اغسطس 2018
+ الخط -
في منطقتنا، شمالي سورية، حينما تريد الأم أن تتسلى مع رفيقاتها دون منغصات، أو تنجز بعض الأعمال التي تحتاج إلى دقة وتركيز، مثل شغل المخرز و(الكناويشا)، فإنها ترسل ولدها الصغير إلى بيت أخته وتُحَمِّلُه رسالة شفهية، فيذهب ويقول لها:
- بتسلّم عليكي أمي، وتطلب منك أن تعطيني شوية "دبس امسكيني" ونصف كيلو "حُمُّص القعود".

فتفهم الأخت مضمون الرسالة، وتمسك أخاها عندها، وتجعله يقعد، وتشاغله ببعض الحكايات والسوالف إلى أن تفرغ الأم من عملها وتأتي لتسترد ابنها.


لكن اللغة الملغوزة لا تقتصر على الأمور الاجتماعية، والحيل التي تبتكرها الأمهات في سبيل الحصول على أوقات رائقة بعيداً عن فوضى الأطفال وحركتهم الزائدة، بل إنها تتعداها إلى عالم السياسة، ففي سورية (التي يمكن اعتبارها دولة نموذجية في مجال قمع الحريات والسجون والمعتقلات وقوانين الطوارئ ومحاكم أمن الدولة) يكثر الترميز والتلغيز، فالناس الذين يخافون من التلفظ بكلمة "اعتقال" يقولون (فلان راح على بيت خالته!)، أو فلان مدعو لاحتساء فنجان قهوة عند (الشباب)، وإذا طال سجن أحد المعتقلين يُقَال (نقعوه)، وإذا أراد أحدهم أن يتحدث عن استمرار (نقع) سجين ما، فإنه يستخدم مصطلح الضوء ويقول: لسه ما بَيَّن لُه ضَوْء.

ومن حكايات "الحاج خيرو عبد اللي" الظريفة أنه كان يكتب لابنه عبد القادر الذي كان يدرس بجامعة المعمار سنان في إسطنبول أواسط الثمانينيات: لا تجي في هذه السنة، لأن عمتك عيوش مريضة، وأنت لازم تقعد يرلي (yerli) أي إِلْزَمْ مكانك، لأن ستك أم محمد ممكن أن تتيسر.

(التيسر، بهذه اللغة، يعني الوفاة).. وعبد القادر ليس لديه عمة اسمها عيوش وجدته أم محمد متوفاة (متيسرة) من زمان، فيفهم من الرسالة أن الأوضاع الأمنية في سورية سيئة!

ومن أجمل ما كتب صديقي بسام يوسف حكاية تقول إنه بعدما أمضى سنوات طويلة في سجون الطغمة الأسدية التقى بأحد أصدقائه وسأله عن سبب غيابه الطويل عنه، فقال بسام:
- والله، كنت في سويسرا.

فلم يفهم ذلك الصديق اللغز، وزعل من بسام لأنه شخص أناني يحب نفسه ولا يريد الخير لأصدقائه، فلو كان رجلاً مُحِبَّاً للخير لطلب من الإخوة السويسريين تأمين فيزا زيارة له ولصديقه في آن واحد!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...