"ياكشي تولع" وهذا "التنميل العام"!

"ياكشي تولع" وهذا "التنميل العام"!

12 اغسطس 2018
+ الخط -
"يخلق التكدس والغم الجماعي أسبابا للنزاع، لكن سرعان ما يتقبل الناس التعايش، ويتعلمون تنمية الصبر"، قرأت هذه العبارة وفكرت فيها طويلا. كم تبدو صادقة! فالأمور فعلا لا تُعرف إلا بأضدادها.

ولا يستثير الهِمة والمجاهدة لأجل الحياة إلا ظهور العنت والعقبات، ولا يشعرنا بحلاوة الرخاء إلا علقم الشدائد، ولو سارت الدنيا رخية هانئة على الدوام لملّها الناس وزهدوها.

لكنني، برغم ذلك، أدّعي أن زيادة معدلات هذا "الغم الجماعي" لحدود لا يتحملها الناس أو لا يتوقعونها يحول الصبر الواعي المحمود لحالة من البلادة والخدر وغياب الوعي.

فالصبر فعل إرادة وقوة واختيار يقوم على فرز العقل للصعاب وللتداعيات، ثم تجاوزها باستخدام سلاح الوقت. هو إذن فعل إيجابي واعٍ يقيني لا علاقة له بالاستسلام ولا اليأس. بل بالعكس، هو قائم بالأساس على التمسك بالأمل حتى ولو لم تبدُ بوادره في القريب.


أما اللامبالاة والنظرة العدمية واستواء كل الخيارات عند الناس، فهذا هو اليأس بعينه، وهو موت على عين الحياة.

في الطب يقولون إن زيادة الضغط على عصب ما نتيجة الألم الحاد الطويل يؤدي إما لتعطيل عمله أو لتلفه كليا. حالة ينتج عنها فقد وظيفة الإحساس الموكلة إليه واستبدالها بما يعرف في الطب بال numbness.. أي التنميل أو الخدر. وهو وضع غير صحي حتى ولو خفف آلام المريض. إذ من الصحة أن تعمل أعصابنا كلها وتتحسس ما بنا وما حولنا لتعطينا تقريرا عن الواقع الحقيقي، فنتجاوب معه على بينة. أما الخدر والذهول عن الحقيقة، بل وتجاهلها دفعا للألم فيؤدي في النهاية لشلل العضو المصاب وفقدانه لوظيفته.

وعندما تزداد الضغوط والصدمات والإحباطات والهزائم العامة، يتحول الناس تحت وطأة الواقع الصعب لحالة أشبه بـ "التنميل العام". حالة تستوي فيها المقاومة مع الاستسلام، وتفقد كل الخيارات المعنى والجدوى. حالة ينتشر فيها التعبير السوقي البغيض "ياكشي تولع" تعبيرا عن الانفصال والسُخط واللامبالاة. حالة يفلت فيها الناس التشبث بشواطئ الأمل، وينجرفون مع تيارات اليأس، ويركنون لقضاء وقت الحياة الثمين بلا هدف وكأنها عبء ينتظرون رفعه عن كواهلهم، لا منحة تستحق الشكر!

والحقيقة الجلية أن الحياة بكل مشقتها وابتلاءاتها ليست نهاية المطاف. وأن لهذا المطاف الذي ينهكنا أحيانا حد اليأس نهاية تستحق المجاهدة..

والحقيقة أيضا أن كثيرا من تصاريف الأقدار تفوق قوتنا وحيلتنا ولا يجدي في مواجهتها سوى الصبر.

والحقيقة أنه (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)، فالصبر إذن فعل إيجابي جدا، ومقدر جدا من الله، بل وجزاؤه الجنة!

واللطيف الخبير أسأل أن يرفع عنا أحمال الحياة القاصمة، وأن يقينا شر الخدر السلبي، فهو والموت سواء، وأن يلهمنا الصبر، وأن يُبقي لنا شعلة الإحساس والأمل والوعي ما ترددت فينا الأنفاس، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى