الاحتكام إلى الوطن..!

الاحتكام إلى الوطن..!

31 يوليو 2018
+ الخط -

بعد أن أعيانا اﻷرق، وبدت الساعات التالية كئيبة، مجرد صور سوداوية محزنة، ظننت معها أنَّ الغياب عن الوطن ما هو إلا لحظات تأخذ من الذاكرة برهة تختصر الزمن الذي يمضي بنا سريعاً بعيداً عن الأصدقاء والأهل المعارف، وأيام الصبا، وأخرى تالية تجري مسرعةً ألّبت معها مواجعنا، على الرغم من بحبوحة العيش التي يقضيها أغلب الناس ممن غادر الوطن، إلى تلك البلاد الأوروبية، ونفذ بريشه من حكم رئيس جائر!

وحدهم رجال "القائد الأوحد" المؤتمرين بالولاء والطاعة، وحدهم ظلوا القائمين على تنفيذ رغباته، وقتل الناس الأبرياء وتشريدهم، وطردهم من بيوتهم عنوةً، ورميهم بالرصاص الحي والمدافع، وقصف منازلهم بالطائرات وبالبراميل المتفجرة، ما دفعهم مرغمين إلى الهرب واللجوء إلى تلك البلاد التي احتضنتهم وآوتهم وعاشوا فيها بسعادة وأمان واستقرار، إلاّ أنَّ رائحة الوطن وأيام الزمن الجميل، لم تفارق طيف أحلامهم، وحكاياتها ظلّت تهيمن على كل متعلقاتهم!


هي حكاية، لوّحت بها بعض صبايا الحي اللائي حرصن على احتضان وطن.. وهذا ما أردن. نعم، هو الوطن الذي تحوّلت أسراره، وكل ما فيه إلى صور مظلمة، مفجعة! ولو قيّض لي أن أحتكم إلى ذلك الوطن الذي يموت سريرياً، مع كل لحظة تمر، ﻷحكمت مغاليق كثيرة، أريد لها اﻵخرون من أن تصبّ في عالمٍ بلا روح، وحياة تفتقد للكثير من معاني الحب، واﻷنس والدعة.

يقال، وكما يتدارك ذلك كل من يعرف معاني الوطن، وحكاياته وألوانه، فهو يظل مدّعاة افتخار ومحبّة، ويقال فيه الكثير، ﻷنه أهم من أي شيء، ﻷنه الوطن الحاضن للجميع.
إنه الوطن، الذي عشنا وترعرعنا فيه، واحتضننا بوﻻئه، وبثّ فينا مغازل وأصنافا من الحب، والغنج الذي افتقدناه لمجرد هجرانه والنزوح عنه!

وهل من السهولة بمكان التخلّي عنه؟ وهل يمكن للمرء، وان كان ساذجاً، أن يؤذن بمغادرة البلد، بعيداً عن الرغبة في البحث عن مكان أكثر أمناً، يقضي فيه بعض الساعات، أو اﻷيام، وقد تكون سنوات عديدة بحثاً عن اﻷمن واﻻطمئنان؟!

الوطن كبير، وهو بحاجة للأمان، حتى يتمكن من احتضان أبنائه الذين يبكونه في كل لحظة وفي كل حين. ومع حب الوطن، يكبر فينا شموخنا، وكبرياؤنا، وتحدينا للمستقبل، وإن كان مبهماً.

آه، ويالها من آه، تظل مؤلمة صاخبة في جوهرها، مع غيابنا عن الوطن، ﻷنها تُجلي القلوب، وتذوب مع نبضات محبيه وعشاقه.

فالوطن حياة، والوطن مدرسة، والوطن أم، والوطن فخار حقيقي.. وﻻ شيء يعدله أو يوازيه، ﻷنه أهم من الجميع.. ﻷنه وطن.

إنَّ العودة إلى سورية، بعرف الكثيرين، بعد الذي حدث مجرد خُرافة، وإن كان الطريق سالكاً لمن يرغب والعيش في ظل واقع مؤس يغيبُ عنه أبسط مقوّمات العيش الكريم، على الرغم من السلبيات التي تقف حجر عثرة في وجه البعض من اللاجئين، في أوروبا، وبحسب المكان الذي يقيمون فيه، فانَّ أوربا تظلّ، برأيي الشخصي، أفضل بكثير من بلادنا التي لم يعرف المواطن فيها سوى التنكيل والذل والحرمان والعوز والحاجة، أقلّها، غياب الكهرباء، ومعاناة المواطن اليومية مع رغيف الخبز والبحث عنه، والحصول عليه يتطلب مزيداً من الركض وضياع الوقت الطويل، هذا إذا تمكنت من ذلك فهذا يعني أنك حققت حلمك بالفوز بجائزة أولمبية، أو بطولة رياضية فردية!

طبعاً، مشكلة اللغة، الطقس، التعليم، الاندماج، والمفرحات اأخرى.. هذه مجتمعة لها دورها أيضاً بالنسبة للمهجّرين، وحدها مشكلة اللغة أكثر ما ظلت تثير هاجس الكثيرين، ما يعني بقاءَهم في حالة تباك، ومستمر!

فالعودة شيء نسبي لمن أمضوا زمناً ليس بالقصير في تلك البلاد التي فتحت قلبها، وبكل حب، لكل سائل، وجد فيها ضالته. أما بالنسبة للشباب، وما دون، فالعودة أظن أنّها غير واردة في قاموسهم بتاتاً! وإن فكروا فيها، فإنهم يتساءلون عن الحلول التي يمكن معها أن تخفّف من وطء الواقع المتردي الذي يعيشه أهلنا هناك، وهل سيتمكنون من أن يحقّقوا رغبتهم في العيش وسط هذه الحالة الهيستيرية التي بات يُعاني منها الجميع، وماذا يمكن أن يُقدم لهم الوطن الذي صار يتباكى عليه الكثيرون؟!

المواطن عانى الكثير، وتحمّل، وعلى مضض، ما فيه الكفاية..!! ﻻ ننكر أنَّ الكثيرين منّا كانوا يعيشون في بحبوحة، ولكن هذا لا يعني أنّه كان يعيش مرتاح البال، أو أنّه خليّ من أي مشكلة كانت، أما في أوروبا، التي كانت في يوم ما حلما ورديا طالما راود طيفه الكثيرين، تظل اﻷفضل مهما حاولنا أن نرمي بكل عاهاتنا التي اكتسبناها في ظل نظام فاسد، وحفرت في قلوبنا معاني الحقد والبغض الدفين الذي ألحق بجيل متكامل!

وهل نحتاج إلى أدلّة أكثر من تلك التي وقعت وأحدثت فجوةً لم يسبق وأن شهدها العالم المتحضّر على مدى عقود؟!

ما حدث في مختلف المدن السورية من دمار وقتل وتجويع وفقر مدقع، وحده ألهب مشاعر الجميع، ما اضطّرهم مرغمين على النزوح والهجرة القسرية.. وهذا ما ألحق بالمواطن السوري من هزيمة جرّاء قيادة مجرمة حمقاء لم تعرف يوماً إلا إذلال مواطنيها وتهميشهم، والحصة الأكبر لمن يُصفق لها ويسير في موكبها، ناهيك بإهمال أصحاب الشهادات العليا، وتنصيبهم في الأماكن الإدارية، الأدنى مرتبة، وإحلال عوضاً عنهم ماسحي الجوخ، الذي يحاولون الصيد في الماء العكر.

هؤلاء وحدهم، ظلّوا وإلى اليوم، يصفقون حفاظاً على كراسيهم، وليس حباً بقيادة حكيمة أذلّتهم وأحرقت جيوب أهلهم وشردتهم، وأدمتم في الصميم، فإلى من تلجأ؟!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.