في رحاب "كيكي"

في رحاب "كيكي"

25 يوليو 2018
+ الخط -
وبينما كنا صغارًا، شاهدنا برامج الأطفال ومعها حفنة برامج لا تغيب عنا، وتتربع العجائب والغرائب على الساحة! كل يوم ترى من غرائب مجتمعنا العربي الشيء الكثير، ويختصر لك المثل المصري "يابا علمني التفاهة، قال: تعال في الهايفة واتصدر"، غرقنا في التفاهة لأبعد حد وأقصى مدى، والمتأمل عن غير كثب لما حوله لن يجد أي صعوبة لما نعانيه.

ترى على الشاشات إعلانات لناس حالها يقطع القلب، وتحثك الإعلانات على التبرع لهؤلاء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ثم يأتي من بعده إعلان يشجعك على العيش وسط المجتمع الراقي، والحي المتميز والمتمايز عن بيئة الفقراء المطحونين.

تبرع لهم ولا تعش بينهم، بلاش تعيش عيشة أهلك، واستورد لنفسك ثقافة أيًا كان مصدرها، المهم أن تتبرأ من جذورك، أن تتبع كل ناهق وناعق، وحينها يشار إليك بالبنان؛ فأنت مواكب الموضة ولا تغفل عن التحديثات لحظة بعد أخرى! ومن الموضة أن تخوض التحديات الكبيرة، ليست تحديات علمية ولا فكرية ولا مهلبية، لكنها تحديات ليونة فطرية، وهي تحديات لا تحتاج مؤهلات على حد تعبير سعيد صالح!


اجتاحت العالم العربي رقصة كيكي، وخرج من المشهور والمطمور من خاض التحدي، تشعر من كلمة التحدي أننا أنجزنا أمرًا مهمًا، لكن ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، وتدرك أننا بارعون في الهلس وأتقنا الهيافة والتفاهة، والدنيا لو تضرب تقلب فإننا خضنا تحديا كبيرًا، وعشنا لحظة جميلة في رحاب كيكي، وذلك لأننا جزء من هذا العالم نشاركه ما يتيسر لنا، ولأنه لا يتيسر لنا المشاركة في العلم والتكنولوجيا -إلا للاستهلاك- فإننا لا نتأخر عن المشاركة في الهلس، وكلها مشاركة وإحنا زي الفل يا كيكي.

خرجنا نجر أذيال الخيبة من كأس العالم، ولكن هذا لم يمنع بعضهم من المشاركة في سفاهات وترهات كيكي، وأنت ترى على وسائل التواصل الاجتماعي التفاعل فوق الفظيع للعرب؛ فإنك حتمًا ستتذكر الخال الأبنودي رحمه الله وهو يقول: "أمة بتتخابط، أمة بتتعابط، أمة ملهاش لا ظابط ولا رابط"! بعض الشباب العربي، وليبرهن عن مستوى الروشنة والعصرنة والجنتلة والهرتلة، شارك في تحدي كيكي وبذل نكيثته، وربما رشق في عمود إنارة أو سقط تحت السيارة، وكله في سبيل كيكي!

الأمر جد خطير، وإن أردت أن تتعرف على مدى الخطورة؛ فإني أسوق إليك واقعتين يربط بينهما خيط رفيع من الغياب أو التغييب، غياب عن آلام الواقع الذي نعيشه، أو تغييب متعمد كي ندور في السايقة كما يدور الحمار! الواقعة الأولى قبل أكثر من مئتي سنة، وقد هاج الناس في عاصمة النور باريس، فسألت السيدة الأولى يومها ماري أنطوانيت عن سبب هيجان الشعب وغضبه؛ فقيل لها: أصلهم بعيد عنك مش لاقيين رغيف العيش؛ ليسطر التاريخ بحروف من خزي وبلاهة رد السيدة الأولى وهي تقول: (طيب ما ياكلوا بسكويت)!

رد ماري أنطوانيت له مسوغ، وهو أنها لا تدرك ما يكابده الناس، هي تتابع الموضة لحظة بلحظة، وربما خاضت تحديات من عينة تحدي كيكي، وهذا بنى جدارًا كجدار برلين بينها وبين الواقع، وتصورت العالم من حولها يعيش نفس التحديات؛ فلما بلغها أنه لا خبز بأيدي الفرنسيين، اقترحت البدائل المناسبة والتي تقيم الأود ليتمكن المرء من إنجاز تحدي كيكي!

والواقعة الثانية جرت قديمًا وفيها قيل لمغفل: قد غلا الدقيق؛ فقال: "وما أبالي! إني أشتري الخبز من السوق". قد كثر المغفلون وارتضوا أن يكونوا غثاء سيل لا قدر له ولا كرامة، وصدق المصطفى الكريم: "ولو دخلوا جحر ضبٍ (وفي لفظ خرب) لتبعتموهم"، وقد تبعناهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ.