من سورية إلى المنوفية!

من سورية إلى المنوفية!

23 يوليو 2018
+ الخط -
لم يحسبها المستشار محمود يوسف صح، حين ظن أن شتيمته لسيادة الرئيس القائد المعلم جمال عبد الناصر في مأدبة الغداء التي دعا لها بعض أصدقائه "على الضيق" ستمر على خير، ولذلك حين عرض عليه أحمد أنور مدير السجن الحربي أحد حضور المأدبة، أن يوصله إلى منزله بدلاً من طلب تاكسي، لم يأخذ خوانة وذهب معه بحسن نية، ليفاجأ به يأخذه إلى السجن الحربي، ليظن في البداية أنه ذاهب إلى مكتبه لإحضار شيء نسيه، فكيف له أن يتوقع أنه سيجد نفسه معتقلاً هناك دون أي إجراء قانوني أو حتى أمني، بل وأن يتم استقباله بعد لحظات من وصوله بحفلة تأديب وحشية، تعرض فيها للضرب بالكرابيج على مدى يومين، ليستغيث طيلة الوقت ولا مغيث، ولم يُنه عذابه إلا مجيء أحمد أنور بعد يومين، ليقول له: "سمّعني صوتك وأنت تشتم نفسك كما شتمت الرئيس، وإلا فإنك ستبقى ها هنا طول عمرك أو تموت"، فسارع إلى شتم نفسه بأقذر الألفاظ، لكي يعود إلى بيته بأي ثمن.

يروي هذه الواقعة العبثية المؤلمة صديق المستشار المسكين الشيخ أحمد الباقوري، الذي كان أحد أبرز المدنيين الذين استعانت بهم ثورة يوليو في بداياتها، وكانت أهمية مشاركته كوزير للأوقاف في حكومة الثورة مضاعفة لأنه كان أبرز المنشقين عن جماعة الإخوان والتي كان من أهم رموزها، وتعرض بسبب ذلك لحملات عاتية من إخوانه السابقين، الذين اتهموه بأنه باع دينه بعرض من الدنيا قليل، حين وافق على المنصب الوزاري.

لم تكن تجربة الباقوري مع المنصب سعيدة، هو وبقية زملائه من المدنيين، الذين كانوا يظنون أن خبراتهم العريضة في المجالات التي أسندت إليهم، ستكفل لهم قدرة على الحركة ليمارسوا ما تصوروه من نفع للبلاد، وحين شكا أحدهم ـ وزير المعارف إسماعيل القباني ـ في اجتماع مجلس الوزراء من التدخل المستمر لضابط يشغل منصب مندوب القيادة في عمله، فقال غاضباً: "غير معقول أن حتة ضابط يتحكم فيّ وأنا وزير ولي تجربة طويلة في وزارة المعارف إلى أن صرت وزيراً لها"، فصرخ فيه جمال سالم غاضباً ليذكره بطبيعة العهد الجديد الذي قبل أن يعمل في خدمته: "حتة الضابط ده هو اللي خلاك وزير"، ليقدم القباني استقالته وتُقبل فوراً، لكنه كان حسن الحظ لأنهم لم يجبروه على شتم نفسه، أو لم يضربه أحدهم على وجهه بلطمة تفقده الوعي، كما حدث مع محمد نجيب بجلالة قدره، والذي يروي الباقوري أن عبد الناصر ورفاقه خلال تداعيات أزمة مارس، سلّطوا عليه ضابطاً صغيراً ليضربه بالقلم أسفل الطائرة التي أوصل لها ملك السعودية، بعد أن ظنوا أنه سيسافر مع الملك ليطلب اللجوء السياسي.


يحكي الباقوري في ذكرياته عن تلك الفترة من حياته، أن أحد كبار الضباط زاره بعد منتصف الليل في ليلة شتاء قارس مع قريب له، وكان يستقل سيارة مكتوباً عليها: (السجن الحربي) وبها جنود يرتدون زي البوليس الحربي، ليقول له بلهجة آمرة إن في وزارة الأوقاف وظيفة وكيل وزارة غير مشغولة، "وقد جئتك اليوم أطلب منك تعيين فلان وكيلا لوزارة الأوقاف وأرجوك لا تؤاخذني على هذه الرزالة، لكنكم علمتونا أن الضرورة لها أحكام".

وفي واقعة أخرى جاءه ضابط كبير وقال له إنه بحاجة إلى معونة كريمة من وزارة الأوقاف، وأنها ليست معونة مالية، لأن مثله والحمد لله لا يمد يده إلى مال مهما كان كثيراً، وكل ما هنالك أنه يرغب في تأجير خرابة تابعة لوزارة الأوقاف تقع في موقع عظيم، ليهدمها ويبني مكانها محطة بنزين، واتضح بعد طلب الباقوري للتفاصيل، أن الضابط عفيف النفس يتحدث عن مسجد في بولاق قريب من مسجد السلطان أبو العلا، اسمه مسجد الخطيري، كان قد تحول مع الإهمال إلى خرابة، ليقول الباقوري إنه "رفض طلبه خوفاً من الله أو خوفاً من الناس أو الاثنين معاً"، وأنه أخبر جمال عبد الناصر بالواقعتين، وفوجئ أن عبد الناصر آثر المجاملة والمصانعة، بدلاً من استدعاء الضابط لمواجهته برفض طلبه.

يشهد الشيخ الباقوري في بقايا ذكرياته أن عبد الناصر "بدأ حياته السياسية زعيما متزن الرأي عميق الفكر محبوباً من الجماهير ولو أنه سار على هذه الطريق لبلغت مصر به أكرم الغايات ولكنه انحرف عن سواء السبيل وكان المظهر الصارخ لانحرافه يتجلى في أمرين: حرصه على الاستبداد بالرأي الذي أفقده أفضل زملائه من رجال الثورة، وإيثار سوء الظن بالناس دعاه إلى الإسراف في التجسس عليهم بكل الوسائل التي كشف عنها العلم وزاده ذلك بعدا عن الشعب"، ويروي أن عبد الناصر كان يردد في مجالسه كلمة منسوبة ظلماً إلى الإمام محمد عبده أن الشرق لا يصلحه إلا مستبد عادل، لكنه لا يروي لنا لماذا لم يقم بتصحيح المعلومة لعبد الناصر، ربما لأنه رأى أن واقعة صديقه المستشار تكفي للتفسير.

يرى الباقوري أن عبد الناصر كان بسبب اقتناعه بنظرية المستبد العادل، يعتز بجاه الحكم ولذلك كان "يغض الطرف عن بطانته التي كانت من أسوأ البطانات في الأرض إلا قليلاً ممن عصم الله"، ويروي أن بعض هؤلاء هم الذين سعوا بالوشاية بينه وبين عبد الناصر، فقالوا له إن الباقوري وضع فوق مكتبه آية (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)، وأنه بعد محاكمة الإخوان أصبح "يعتبر الوزارة ظلمات يسأل الله أن يخرجه منها إلى النور"، وحين قام عبد الناصر بعد قيام الوحدة مع سورية بتكليف الباقوري بأن يبقى في دمشق ليتواصل مع رموزها السياسية والثقافية، صور هؤلاء لعبد الناصر أن لقاء الباقوري بمرشد إخوان سورية مصطفى السباعي كان للتآمر عليه، مع أن جماعة الإخوان لم تكن وقتها محظورة في سورية، بل كان لها حضور سياسي واجتماعي واسع، ويرى الباقوري أن هؤلاء أيضاً ربما نقلوا رده في أحد المجالس العامة على أحد أعيان دمشق الذي قال إن عبد الناصر "قد جمع كلمة العرب التي لم يستطع أن يجمعها النبي العربي محمد"، فقال له الباقوري إن "عبد الناصر لا يقاس بمحمد ولا بأحد من أصحاب محمد وإنه ليشرفه أعظم تشريف أن يكون خادما في بيت محمد صلى الله عليه وسلم"، وهو رد يعتقد الباقوري أن عبد الناصر لم يغفره له.


من أطرف ما يحكيه الباقوري عن ذكريات سفره مع عبد الناصر إلى دمشق في بدايات الوحدة بين مصر وسورية أن الباقوري اقترح على عبد الناصر لتوثيق عرى الوحدة، أن يصدر قراراً بتجنيد الفلاحين المصريين في سورية ليعملوا فلاحين في أراضيها الخصبة، فتستفيد الجمهورية المتحدة الوليدة من "هذا التزاوج بين الفلاح الخبير والأرض الخصبة، وينشأ جيل جديد آباؤه مصريون وأمهاته سوريات، يتولى حماية الوحدة"، فأخرجه عبد الناصر من رومانسيته الوحدوية حين رد عليه قائلاً إن "هذا التزاوج بين المصريين والسوريات قد يأخذ الطريق على بناتنا في مصر، لأن الجندي المنوفي سيؤثر السورية البيضاء على المصرية السمراء، وبذلك ينقلب الخير شرا، وتكون الوحدة موضع سخط الآباء والأمهات المصريات".

تأكد الباقوري من تأثر عبد الناصر بوشايات بعض رجاله، حين دعاه الباقوري لحضور حفل زفاف ابنته، فلم يحضر، وحين استدعي الباقوري للقاء عبد الناصر في 10 فبراير 1959، عاتب عبد الناصر لأنه لم يحضر حفل زفاف ابنته، فقال عبد الناصر له إنه كان مصراً على الحضور، "لولا ما بلغني عنك من حضورك مجالس تنتقد الثورة التي أنت علم من أعلامها"، ثم حدثه عن تقارير تقول إن بعض أعضاء الإخوان في عدة دول عربية كانوا يبعثون إليه أموالاً ليعين أسر الإخوان المعتقلين، فرد الباقوري أن ذلك كان قبل قيام الثورة بثلاث سنوات في إحدى حملات الاعتقالات التي تعرض لها الإخوان، وأكد له أنه لا يمكن أن يتآمر على الثورة مع الإخوان، وحين لم يجب عبد الناصر على توضيحات الباقوري، طلب منه الباقوري ورقة ليكتب استقالته فقال له عبد الناصر: "أنت تعرف حد استقال عندي قبل كده"، فطلب منه الباقوري أن يحاكمه محكمة علنية، ليطلب منه عبد الناصر أن يلزم بيته لكي لا ينتهز البعض الفرصة "ويجعلون منك بطلا للنيل من الثورة والخروج على النظام"، فعاهده الباقوري على ألا يخرج من داره إلا إذا دعاه للخروج، وبعدها بيوم نشرت الصحف نبأ قبول استقالته من الوزارة، ليبقى الباقوري ملازماً بيته لمدة خمس سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام، لتنتهي إقامته الجبرية حين رق له قلب عبد الناصر فقرر تعيينه مديراً لجامعة الأزهر، وإذا كنت الآن تستغرب قبوله للمنصب وعودته لخدمة النظام بكل ما أوتي من همة ونشاط، فلعلك نسيت أن الشيخ الباقوري بالتأكيد، لم ينس ما جرى لزميله المستشار حين "بحبحها في الكلام حبّتين".

....

ـ بقايا ذكريات ـ أحمد حسن الباقوري ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ الطبعة الأولى 1988

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.