من نكد الدنيا..

من نكد الدنيا..

18 يوليو 2018
+ الخط -
تختلف المحن في طريقك، وربما تتكالب عليك كما تكاثرت الظباء على خراشٍ، لكن صحبة الجهال من أصعب ما تواجهه. قالت العرب: "قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل"؛ فالجاهل يجر عليك المصائب وهو واهمٌ أنه يساعدك، ويقربك إلى المهالك ظنا منه أنه ينجيك، وتحرقك نيران صحبته فتهلكك.

أورد الإبشيهي في كتابه الماتع "المستطرف في كل فنٍّ مستظرف" قصة أحمقين جمعهما طريق، وأرادا أن يقطعا الطريق بالحديث فيتشاغلوا به؛ فقال أحدهما للآخر: تعال نتمنَّ على الله؛ فعسى أن يحقق لنا ما نتمنَّاه! قال صاحبه: فإني أتمنى أن يرزقني الله قطيعًا من الغنم أنتفع وأهلي بلبنه وصوفه ولحمه. قال له صاحبه وهو يحاوره: أما أنا فأتمنى أن يرزقني الله قطيعًا من الذئاب؛ فأرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئا. فقال الأول: ما هذا الذي تقول؟ أهذا حق الصحبة وحرمة العشيرة؟! ثم تصايحا وتفارقا وبعد وقت ارتضيا بحكم أول من يرونه من الناس.


وجاء الحكم المنتظر وقد أناطا به آمالًا عريضة، شيخٌ تبدو عليه سيماء الوقار، يركب حمارًا عليه زِقان من عسل؛ فتوسما فيه أمارات الحكم المنصف والرأي الراجح وأخبراه خبرهما. أرهف الشيخ سمعه للصديقين، وقلَّب نظره في أقوالهما وصفحات وجهيهما، ثم عمد إلى الزّقّين فأنزلهما على الأرض، وأسال العسل على الأرض وقال: أسال الله دمي على الغبراء كما سال هذا العسل من الإناء إن لم تكونا أحمقين! فكان الشيخ أحمق الثلاثة.

قال ابن الأعرابي: "الحماقة مأخوذة من حَمِقَت السوقُ إذا كسدت؛ فكأنه كاسِدُ العقل والرأي فلا يُشاور ولا يُلتفَتُ إليه في أمرٍ مهم، وبها سُمِّي الرجل أحمق لأنه لا يميِّزُ كلامه من رعونته، والحمق غريزة لا تنفع معها أيُّ حيلة، وداء لا دواء له إلا الموت". ولو كان لي من الأمر شيء لقلت: لا يُلتفتُ إليه في أمرٍ مهم أوغير مهم؛ فإن سوء تدبيره وبال على نفسه وعلى من حوله. احتكام الأحمقين للشيخ ربما تأثرًا بمظهره الوقور، وكم من أناسٍ تخدعك مظاهرهم؛ فإن استنطقت ألسنتهم أو اختبرت أفعالهم، رأيت بونا شاسعا بين المظهر والمخبر.

الأحمق يجهل قدر نفسه، ومن جهل قدر نفسه فإن جهله بقدر غيره من نافلة القول، وتراه عيابًا لا يروقه شيء مهما عظم، ويسهل استفزازه ويصعب إرضاؤه؛ فصحبته من نكد الدنيا وجحيم الحياة. يطير الأحمق فرحًا إذا مدحه الناس بما ليس فيه، وعلى العكس منه الرجل الفطن؛ فإنه يوقن أن من مدحه بما ليس فيه ساعة الرضا، ذمه بما ليس فيه وقت الغضب. ومن علامات الأحمق ست خصال؛ الغضب من غير شيء والعطاء في غير حق، والكلام من غير منفعة والثقة بكل أحد، وإفشاء السر، وأن لا يفرق بين عدوه وصديقه، ويتكلم بما يخطر على قلبه، ويتوهم أنه أعقل الناس.

وويل لمن صاحب أحمقَ أو خاصمه؛ فإنك إن أعرضت عنه اغتمّ، وإن أقبلت عليه اغترّ، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإن أنصفته ظلمك! وقد هجا أعرابي رجلًا فقال: خطؤه من بعد اجتهاد، وأراد بذلك أنه لا ينتفع بعقله؛ فهو بعد تفكير طويل يقع في الخطأ، ولا يكون ذلك إلا لحمق الرجل وكساد عقله، ويصدق فيه قول ابن الرومي: "أقامَ يُجْهِدُ أيامًا قريحَتَه وفسَّرَ الماءَ بعدَ الجُهْدِ بالماءِ".

إن شئت أن تعيش حياة قليلة النكد والمتاعب، لا أقول خالية منها، فاحرص على أن تتعامل مع الحمقى في أضيق نطاق، والسعيد من اتعظ بغيره.

دلالات