لا تذهب إلى الصمت أبداً

لا تذهب إلى الصمت أبداً

16 يوليو 2018
+ الخط -
لا أظن أنك ستجد توصيفاً لمهمة الكاتب في عمله الإبداعي، أدق من توصيف الكاتب الأميركي العظيم آرثر ميللر لمهمته ككاتب مسرحي حين قال: "ما على الكاتب الحقيقي أن يفعله، هو أن يضع كل فاعليته وقدرته على التأثير ليقول لجمهوره: هذا ما تظنون أنكم ترونه في الحياة كل يوم، ثم يقلبه قائلاً: وهذه هي حقيقته".

كانت المخرجة ريبيكا ميللر موفقة حين اختارت هذه الكلمات لتكون مفتتحاً لفيلمها التسجيلي عن أبيها الحاصل على نوبل للآداب، والذي أنتجته وعرضته قناة (إتش بي أو) مؤخراً، وهو فيلم يكتسب خصوصيته من اعتماده على الصور النادرة والحوارات التي صورتها ريبيكا طيلة عشرين عاماً منذ بدأت التفكير في عمل فيلم يظهر شخصيته الفعلية، التي لم تكن تراها تظهر فيما يجريه من لقاءات، وقد نجحت في ذلك، لأنها لم تسع لتجميله أو إظهاره خالياً من التناقضات، يكفي أنها أشارت إلى موقفه المركّب من أخيها الأصغر دانيال، الذي كان ابنه الثاني والأخير من زوجته الثالثة إنجي موراث المصورة الألمانية، والذي ولِد مصاباً بحالة متقدمة من متلازمة داون، فقرر آرثر وزوجته وضعه في مؤسسة خاصة لينال الرعاية المناسبة، وكان مقلاً في زياراته له، على عكس زوجته وابنته، لكن علاقته به قويت مع مرور السنين وأصبح يزوره بشكل منتظم، لكنه مع ذلك لم يذكره أبداً في العلن، ولم يكتب عنه في كل ما كتبه عن نفسه، ولم يكن سهلاً له بشكل عام أن يتكلم عنه، وحين أنهت ريبيكا النسخة الأولى من فيلمها سنة 1990، شعرت أنها لا يمكن أن تكمله بدون الحديث عن أخيها، فعرضت على أبيها أن يتحدث عنه، وفوجئت بموافقته وبحديثه المستفيض عن مشاعره تجاه دانيال، لكن ريبيكا وضعت الفيلم جانباً وانشغلت بأفلام أخرى، وحين مات أبوها وعادت لإنهاء الفيلم، قررت ألا تضع في الفيلم ما قاله الأب عن أخيها، ليبقى سراً ربما تكشفه الأيام فيما بعد، كما قررت ألا تعرض أي لقطات مصورة لأخيها، حماية لحياته الخاصة، واكتفت بعرض مقطع من يوميات أبيها يصف فيه مشاعره المركبة تجاهه.


يقدم الفيلم مشاهد لشغف آرثر ميللر بالنجارة التي كان يمارسها في بيته في ولاية كونيتكيت، الذي صنع فيه الكوخ الصغير الذي ظل يكتب فيه طيلة عمره، في الوقت الذي كان يفكر في بناء مسرحيته الأشهر والأهم (موت بائع متجول)، التي تأثر فيها بشخصية أحد أعمامه وبتجربة انتقال والده من الغنى إلى الفقر بعد الانهيار الاقتصادي الكبير في عام 1930، وحين سئل عن تعليقه على تأثير المسرحية الحزين على كثير من الآباء، لدرجة أن بعضهم تم إسعافه في نفس ليلة مشاهدتهم لها، قال إنه يعتقد أن التراجيديا متفائلة أكثر من الكوميديا، لأنها إن أُحسن صنعها تساعد الإنسان على مواجهة الحقيقة والبحث عن اللحظة المناسبة للتغيير.

وحين سألته ريبيكا عن التشابه بين صنع الأثاث وبين كتابة المسرحيات، وافقها على ذلك مضيفاً: "في النجارة لدي قوى ومواد أريد أن أكسرها وقوى ومواد أريد لها أن تلتئم، يمكن فعل ذلك أيضاً على خشبة المسرح كشيء حي يؤثر على الجمهور، وإذا جاءت النتيجة كاذبة ولا حياة فيها، فهذا يعني أن هناك بعض القوى التي لم أقم بالتقاطها، أو أنني لم أستدعها وأنفخ فيها الحياة بالشكل المناسب، بشرط أن تتذكر أن أكبر عمل لك ككاتب ليس أن تجعل الأشياء البسيطة معقدة، بل أن تقوم بجعل الأشياء المعقدة مفهومة".

تحدث آرثر ميللر لابنته باستفاضة عن فترة زواجه القصير والمرير من النجمة الأشهر مارلين مونرو، والذي يرى أنه كان سبباً رئيسياً في استدعائه للجنة مكافحة الأنشطة غير الأميركية، التي سقط أمامها صديق عمره إيليا كازان، حين اضطر للشهادة على بعض رفاقه الشيوعيين السابقين، لكي يُسمح له بالعمل في السينما، برغم تحذير آرثر له من ذلك، يقول آرثر عن تجربته تلك: "حين بدأت الناس تمل من أخبارهم وجدوا في استدعائي للجنة بعد زواجي من مارلين فرصة لدعاية جيدة، لا تنس أننا بلد التسلية، وحتى الفاشيون فيها لا بد أن يكونوا مسلين لكي يحتفظوا باهتمام الناس". يكشف آرثر مفاجأة كبيرة حين يروي أن رئيس اللجنة عرض عليه إيقاف التحقيق لو ساعده على أخذ صورة شخصية مع مارلين، ومع أن العرض لم يكن ليكلفه الكثير، لكن آرثر رفض التعاون مع اللجنة بأي شكل، فأدانته اللجنة وحكمت عليه بتغريمه وحبسه سنة مع وقف التنفيذ، وبرغم محاولات آرثر لإسعاد مارلين ومحاولته "إبعاد شياطينها عنها"، إلا أن تعاستها الدائمة واكتئابها الأزلي كانا أقوى من قدرته على لعب دور المنقذ، وحين انفصلا ولقيت مصرعها بعد فترة بجرعة زائدة من المنومات، ظل يلوم نفسه لأنه لم ينقذها، وكتب مسرحيته (قبل السقوط)، ليتصالح مع حقيقة أنه لم ينقذها، لكنه لم يكن قادراً على إنقاذ أحد، وحين سألوه في وسائل الإعلام: هل ستحضر جنازتها، قال لهم بهدوء: "لا، لأنها لن تكون هناك".


برغم ما يعرفه الجميع عن قلة إنتاج آرثر ميللر المنشور والمعروض على خشبة المسرح، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، إلا أن الفيلم يفاجئنا بأنه كان يكتب كل يوم دون انقطاع، ودون أن يربط ذلك بالنشر، حتى في الفترات التي تضاعف فيها هجوم النقاد عليه، وفي الفترات التي تجاهلوه فيها تماماً، شارحاً موقفه بأن ما تستطيع فعله لنفسك، عليه أن تفعله لنفسك، سواء كان مسرحية أو طاولة سفرة أو رف كتب، مضيفاً: "حين تمارس الكتابة لفترة طويلة، يصبح من الضروري عليك أن تعطي ظهرك لما لم ينجح من أعمالك، وتمضي قدماً لما تتخيل أنه قد ينجح، أن تقرر الاعتزال هذا موضوع آخر، لكن إذا كنت ستكمل الكتابة، لا بد من أن تفكر بهذه الطريقة، لأن البشر لديهم كل أنواع المشاعر والتوجهات التي لن تقدر على التوافق معها كلها، ولذلك لا بد أن تجد طريقة لكي تواصل الكتابة، وتتواصل مع جمهورك، لن ألوم الذين لم يستطيعوا فعل ذلك، من الممكن أن تصيد شيئاً ذات مرة، ومن الممكن ألا يحدث ذلك، لكن في كل الأحوال الصوت مهم جداً، عليك ألا تسكت، لا تختر الصمت، لا تذهب إلى الصمت أبداً، هذا هو المهم".

نرى في الفيلم كيف تأثر آرثر ميللر برغم مشواره الطويل بالآراء السلبية للنقاد في مسرحية له عرضت في أواخر الثمانينات، وكيف كانت تحاول زوجته مواساته بالحديث عن أناس قرروا ألا يقرأوا العروض النقدية لأنهم وجدوها ظالمة. يقول لابنته بلهجة مريرة إنه يدرك أن العروض النقدية السيئة ستقتل مسرحيته، لكنه متأكد أنها ستجد طريقة ما لكي تنفذ إلى النجاح، لأن "الفن طويل والحياة قصيرة"، وبعد سنوات من الركود والتعثر والتجاهل النقدي المرير، تحققت نبوءته، حين أدى تقديم مسرحية (موت بائع متجول) في فيلم من بطولة داستن هوفمان وإخراج المخرج الألماني فولكر شندروف، إلى موجة من إعادة اكتشاف كل أعماله، وتقديمها بكل لغات العالم وفي أهم المسارح وأصغرها، وبدأ جميع نقاد العالم يكتبون عنه بحفاوة وتقدير، وحين سألته ابنته عن رأيه فيما حدث قال لها ساخراً: "لا أعرف، حصل قبل ذلك في الحياة أن يستيقظ الناس فجأة ليقرروا الإعجاب بأعمال، لكن سيأتي عليهم يوم لينسوها ثانية ويعودوا للنوم"، ثم قام بتقليد صوت الشخير، فلامته ابنته لأنه متشائم، فرد عليها بمرارة: التشاؤم هو وسيلة الدفاع الوحيدة التي أملكها ضد التفاؤل، ثم قام بتغيير الموضوع ليحدثها عن ممر قام بعمله في ضيعته ليسهل الوصول إلى الغابة، في حين اختارت هي أن تضع على الشاشة مقتطفاً من رسالة كتبها إلى زوجته تقول: "عزيزتي إنجي: المسرحية دائماً لها حياتان: المكتوبة، والمعاشة، الأخيرة لحسن الحظ هي السعيدة".

في موضع آخر يتحدث آرثر ميللر عما يبقى من الفنان في نهاية المطاف، فيقول متأملاً تجربته: "هناك آلاف المسرحيات تذهب وتأتي، يمكن ألا يتذكرها أحد، لكن ما هو الحقيقي وما هو الشيء الذي يعيش لوقت قصير كذبابة مايو، بالنسبة لي كلما اقترب عملك من غير المكتوب وغير المنطوق في حياة شخصياتك، كلما أصبح عملك حياً، ولذلك في رأيي لا توجد مسرحية تكتمل أبداً، بل توجد مسرحية تُهجر لأنها قاربت على الاكتمال، أو لأنها لم تسمح لك بأن تقترب من الرواية المخفية، من الحقيقة المخفية لما يجري بالفعل، أميل للاعتقاد أن المسرحية ليست عما نقوم بنطقه، بل عما بين السطور التي ننطق بها، وأن العالم بشكل حيوي ليس عما نصفه بأنه حقيقي، وكل الفنون تسعى للاقتراب من ذلك العالم الذي لا نتمكن من وصفه بدقة"، ثم يشبه نفسه ككاتب بذئاب الغابات التي تظهر أحياناً لتجعل نفسها ممكنة لمن يطاردها ويفكر في صيدها، وحين يُسأل عما يحب أن يكتب في نعيه، يقول ببساطة: كاتب، هذا كل ما يجب أن يقال، كاتب، ولذلك اختارت ريبيكا أن يكون هذا عنوان فيلمها (آرثر ميللر: كاتب).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.