مراجعات لا تراجعات: عن البيان الملعون!

مراجعات لا تراجعات: عن البيان الملعون!

15 يوليو 2018
+ الخط -

في يوم 13 يوليو 2013 شاركت مع عدد قليل من الكتاب والسياسيين والحقوقيين بالتوقيع على بيان سياسي، لم تنشر نصه أغلب المواقع الصحفية، في حين أشار إليه أحد المواقع القليلة التي نشرته بوصفه (بيان استكمال الثورة)، وقد جاء في ذلك البيان ما يأتي: 

" ... إن مصر اليوم مهددة بالانزلاق إلى أوضاع خطيرة تضع أهداف ثورة يناير على المحك. فبين التخوّف من دخول مصر – مرة أخرى – في فلك الحكم العسكري بدون قيد أو شرط، والتخوف من أن يؤدي الاستقطاب المتبادل إلى خسائر جسيمة، أبرزها الدماء التي سالت في الشوارع لمواطنين من عموم الشعب المصري سقطوا ضحايا لخطاب الكراهية والعنف الذي يتم ترويجه، ناهيك عن المؤامرات التي يحيكها الساسة على حساب المواطنين البسطاء، بين هذا وذاك تطول قائمة الخسائر لتشمل على سبيل المثال استمرار فرض إجراءات أمنية استثنائية على عموم الحراك الشعبي – وهو المكسب الرئيسي من الثورة – وشيطنة فصيل سياسي بجملته ونشر خطاب كراهية ضده، بما يهدر بالقطع قيم العدالة والإدماج والكرامة الإنسانية".

في هذا الإطار يشدد الموقعون على هذا البيان على:
1 ـ تأسيس كل الإجراءات والخطوات في المرحلة الانتقالية الجديدة، التي تتسم بالدقة والحساسية الشديدتين، على الأهداف الثلاثة الآتية: 1) الإسراع بتسليم السلطة إلى مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا؛ 2) عدم إقصاء أو شيطنة فصيل سياسي بأكمله؛ 3) إخراج القوات المسلحة نهائيًا وبشكل كامل من العملية السياسية.

2 ـ تعديل الإعلان الدستوري المنظم للبلاد في الفترة الانتقالية خلال ستين يومًا من الآن على يد لجنة قضائية تختارها الجمعيات العمومية للهيئات القضائية تقوم بتلقي اقتراحات مكتوبة من كافة القوى السياسية بدون إقصاء، بحيث يتضمن الإعلان الجديد: 1) تقنينًا للاقتراحات الواردة في هذا البيان بشأن ترتيبات وتوقيتات المرحلة الانتقالية وبشأن إجراءات العدالة الانتقالية؛ 2) ضمانًا كاملًا لكافة الحقوق والحريات السياسية والمدنية والشخصية كما تقرها مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية؛ 3) تقييدًا لسلطة رئيس الجمهورية في إصدار إعلانات دستورية جديدة؛ 4) إطارًا حاكمًا لتنظيم انتخابات الرئاسة والبرلمان خلال المرحلة الانتقالية يتضمن الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، والسماح بالرقابة الدولية عليها، ومنع تصويت رجال الشرطة والقوات المسلحة، وقواعد إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، مع النص على تنظيم الانتخابات وفقًا لنظام يجمع بين نظامي القائمة والفردي؛ 5) نصًا واضحًا يضمن نقل السلطات التنفيذية والتشريعية الممنوحة للرئيس الانتقالي إلى الرئيس المنتخب فور انتخاب الأخير، ونقل السلطات التشريعية من يد الرئيس المنتخب إلى البرلمان فور انتخاب الأخير.



3 ـ الإعلان عن إجراء الانتخابات الرئاسية خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من الآن، تليها الانتخابات البرلمانية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من الآن.

4 ـ تأجيل عملية وضع دستور دائم للبلاد إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نظرًا لأوضاع الاحتقان والاستقطاب السائدة التي لا تسمح بصياغة دستور ديمقراطي توافقي. والتأكيد على ضرورة وضع دستور البلاد الدائم عبر عملية شعبية ديمقراطية تشاركية لا تستبعد أو تقصي أي طرف أو توجه سياسي أو فكري أو عرقي أو ديني أيًا كان. والتأكيد كذلك على عدم التعجل في طرح مسودة هذا الدستور للاستفتاء قبل إنهاء حالة الاستقطاب والاحتقان المخيمة على البلاد.

5 ـ إقرار وإصدار مشروعات قوانين إعادة هيكلة الشرطة (الصادر عن “مبادرة شرطة لشعب مصر”) وضحايا المحاكمات العسكرية المدنيين، والعدالة الانتقالية، بشكل فوري، أي خلال المرحلة الانتقالية الجديدة التي بدأت مع إصدار الرئيس الانتقالي للإعلان الدستوري الحاكم للبلاد حاليًا.

6 ـ البدء على هذا الأساس، أيضًا خلال المرحلة الانتقالية، فى استكمال إجراءات العدالة الانتقالية الممهدة لانتقال مصر من دولة مبارك إلى دولة الثورة، وذلك باتباع الخطوات التى تجاهلها القائمون على شئون البلاد فى فترتي حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة والرئيس السابق مرسي، وهي اعتراف الدولة وأجهزتها بارتكاب جرائم ضد المصريين خلال فترة حكم مبارك والفترة التي تلت ثورة يناير 2011 وحتى اليوم، وتأسيس لجان حقيقة مستقلة ومحايدة وعلنية لكشف الحقائق وإظهار الأدلة، ثم محاسبة ومحاكمة كل من تورط فى جرائم وانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية أو الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى محاكمة عادلة ومنصفة، وإعادة هيكلة وتطهير أجهزة الدولة المتورطة في تلك الانتهاكات، وخاصة الأجهزة الأمنية، مع جبر الضرر وتعويض ضحايا هذه الانتهاكات، بحيث تنتهي إجراءات العدالة الانتقالية بالمصالحة الوطنية.

7 ـ التأكيد على تحقيق العدالة بدون تمييز، والإصرار على عدم تحميل فصيل سياسي واحد – بدون وجه حق – مسئولية الأرواح التي أزهقت من 25 يناير 2011 وحتى الآن، والتأكيد في هذا السياق على الالتزام بحق كل مواطن في المثول أمام قاضيه الطبيعي بحيث يتم تفعيل نظام عدالة متوافق مع حقوق الإنسان وغير قائم على التمييز بين مرتكبي الجرائم ضد الثورة على أساس الانتماء السياسي.

8 ـ إعادة محاكمة كل المحكومين السياسيين في إطار إجراءات العدالة الانتقالية، وإصدار عفو شامل وعاجل عن الأطفال الذين حوكموا عسكريا، وكذلك إصدار عفو شامل عن المدنيين الذين مثلوا أمام محاكم عسكرية منذ بداية الثورة وحتى وقتنا هذا، أو على الأقل إعادة محاكمتهم أمام قضاء طبيعي مدني.

9 ـ ضمان حرية الرأي والتعبير لكافة الأطراف والقوى السياسية، مع إصدار قانون عاجل يضع معايير واضحة لتعريف خطاب التحريض على العنف ويقر عقوبات مناسبة ورادعة له، مع التعامل مع الأشخاص والجهات الإعلامية المحرضة على العنف، أيًا كانت توجهاتها السياسية، وفقا للقانون وليس على أساس الانتماءات السياسية أو الفكرية.

10ـ إعطاء تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية لجماهير الشعب المصري، باعتبارها أحد المطالب الأساسية لثورة 25 يناير 2011، وكذلك باعتبارها المحرك الرئيس لغضب جموع الشعب في 30 يونيو 2013، أولوية أولى ضمن مهام الحكومة الانتقالية...".



لم أستغرب حين تم الهجوم بشراسة على البيان ومن وقّعوه في بعض أكبر برامج التوك شو دون أن تتم قراءته أصلاً، ليفهم المشاهد عن ماذا يتحدثون، وبرغم أن تدخل الأجهزة الأمنية المباشر في تسيير حركة البرامج والصحف، لم يكن وقتها قد وصل إلى ذروته، فقد اختار الجميع عدم إتاحة الفرصة لصوت مختلف أن يصل إلى الناس، ولو حتى من باب العلم بالشيئ.

يومها كانت الأجواء محتقنة للغاية، ولذلك بادر كثير من المنتمين إلى ما يطلق عليه (معسكر الثورة) للهجوم الشرس على البيان دون فتح حوار حوله، أو محاولة فهم أسباب من وقعوا عليه، ليتم اتهامهم في أحسن الأحوال بأنهم عملاء لجماعة الإخوان وراغبون في إعادتها إلى الحكم، برغم أن من وقعوا على البيان منذ البداية معروفون بوقوفهم ضد سياسات الإخوان، ومتهمون من مواقعها وأعضائها بأنهم "انقلابيون كارهون للحكم الإسلامي"، وبرغم أن البيان ناله هجوم شرس من أنصار جماعة الإخوان الذين كانوا ولا زالوا يرفضون أي خطوة لا تنطلق من إعادة محمد مرسي إلى مقعده كرئيس للجمهورية.

كان الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عيسى أشرس من هاجموا البيان، وأثروا على طريقة استقباله لدى كثيرين ممن أعرفهم، وتواصلوا معي مباشرة بعد هجومه على البيان في برنامجه التلفزيوني. ويا ليته اكتفى بنقده أو الهجوم على أفكاره، بل كان للأسف من أوائل من اخترعوا في الرد عليه تخريجة (الطابور الخامس) التي نشر عنها مقالاً كاملاً في صحيفة (التحرير)، قسّم فيه أعضاء ذلك الطابور إلى عدة فئات تتنوع ما بين مزدوجي الجنسية ومن تزوجوا أجنبيات ومن يعملون في منظمات حقوق الإنسان أو عاشوا خارج مصر لفترات طويلة.

ولم يكتف بذلك، بل بدأ في ترديد شتيمته التي انتشرت فيما بعد على ألسنة زملائه في برامج التوك شو، والتي تصف من يعترض على طريقة إدارة ما بعد 30 يونيو بأنهم بالنص إما "مخنثون سياسيا أو مخنثون فيزيقيا"، وقتها كان الأستاذ إبراهيم يفتخر بالاتصالات واللقاءات الأسبوعية التي تجري بينه وبين السيسي، الذي وصفه بالنص بأنه "فعل ما لم يفعله عبد الناصر في تأميم قناة السويس".

ثم حين لفت الأيام وفضحت ذلك الوهم الذي شارك الأستاذ إبراهيم في ترويجه، لم يقم بمراجعة موقفه بصدق، بل عاد على الفور إلى دور المعارض الشرس ليبيع صحيفته، ثم بعدها إلى دور المثقف المستأنس الذي كان يسخر منه قديماً، قبل أن يتورط لاحقاً في شهادة الزور المؤسفة التي أدلى بها في محاكمة مبارك بتهمة قتل المتظاهرين، والتي اعتبرها القاضي مهمة لدرجة أنه جعلها الحيثية السادسة من حيثيات براءة حكم مبارك الفاضحة، برغم تناقضها مع شهادة سابقة لإبراهيم عيسى كان قد أدلى بها أمام النائب العام في عام 2011.

بغض النظر عن كل ما جرى من هجوم على البيان، يهمني التأكيد على أنني لم تكن لدي أوهام تخص مفعول وتأثير البيان الذي لم يكن لي دور في صياغته، كما نشر البعض وقتها، لكنني وجدت أن كل كلمة فيه تعبر عن مطالبي وتخوفاتي وآمالي وارتباكي وإصراري على رفض ما يجري أيضاً. يومها قال أحد الأصدقاء إن هذا البيان مجرد إعلان موقف لا علاقة له بأرض الواقع، فقلت له أنه في أي حال سيكون أفضل وأشرف من إعلان موقف بتأييد ما يجري على أرض الواقع. كنت أدرك أن عدم تبني البيان من خلال أحزاب وحركات سياسية لها حضور فعلي في الشارع، لن يجعل له أثراً قوياً كالذي كان يتصوره البعض ويخوف منه البعض الآخر، خاصة أن الموقف كان قد تعقد كثيراً بسبب طريقة جماعة الإخوان في التصعيد السياسي وإصرارهم على تفويت كل الفرص السانحة للتراجع الذكي، وهو أمر كان الكثير من رموزهم يشككون فيه من قبل، ثم كشفته وأكدته العديد من الشهادات التي أدلى بها بعض المنتمين لهم والمحسوبين عليهم.

لكنني مع ذلك لم أكن أتعامل مع البيان بوصفه "حركة مجانية لترييح الضمير وإدعاء المثالية"، كما وصفه البعض بحسن نية، فقد كنت أعلم أن أي موقف يؤخذ في ذلك الفترة لن يكون مجانياً، وسيكلف من يتخذه ثمناً باهظاً حتى لو كان مجرد بيان لإعلان موقف، وقد حدث ذلك بالفعل ودفعت ذلك الثمن الذي كان لحسن حظي أقل بكثير مما دفعه آخرون أكثر شجاعة مني، ولست نادماً على ذلك. وأكثر ما أحزنني مما حدث في تلك الأيام وما تلاها أنني خسرت بعض أصدقائي بسبب هجومهم الظالم علي في الأيام التي أعقبت البيان، وتأكدت خسارتي لبعضهم عقب موقفهم مني بعد ما كتبته عن مذبحة رابعة. صحيح أنني تصالحت مع بعضهم بعد أن وحدت قسوة الواقع بيننا من جديد، ولا زلت أرى أننا جميعا بحاجة إلى مراجعة ونقد وتأمل لمواقفنا في تلك الفترة، دون أن نقع في فخ التطهرية أو المثالية الجوفاء التي تستخدم لإراحة الذات دون تطوير للأداء وتفكير في المستقبل، وهو ما أحاول من ناحيتي ككاتب أن أساهم به في سلسلة المقالات التي تحمل عنوان (مراجعات لا تراجعات)، فضلاً عن كتابة شهادتي على ما عاصرته وعايشته.

للأسف الشديد، ما زالت الأوضاع في مصر متوقفة عند جوهر ما طالب به البيان، سيلزم فقط إضافة أسماء مئات القتلى من ضحايا الإرهاب والقمع والآلاف من المصابين والمسجونين والمختفين قسرياً، وللأسف لا زال الكثيرون يظنون أن "الفهلوة والفَكَاكة" ستصلح للقفز فوق التعامل مع ملفات كل هؤلاء إلى الأبد، وهو ما ظنه كل المتذاكين في دول عاشت أوضاعا شبيهة بأوضاعنا، ولم تستطع صنع مستقبلها إلا بعد مواجهة ماضيها بشكل أو بآخر، وهو موقف سيظل الكثيرون يتعاملون معه بوصفه موقفاً مثالياً مجانياً، إلى أن تجبرهم تداعيات الواقع على التعامل معه بوصفه موقفاً واقعياً. لكن ذلك التغيير لن يكون بالتأكيد عبر بيانات يوقعها أفراد مهما حسنت نواياهم، بل عبر ضغوط شعبية تمثلها وتقودها تيارات سياسية تقرأ الواقع جيداً، وتدرك أن كل أشكال العمل السياسي والإعلامي التي اعتمد عليها عالم ما قبل 2013 لم يعد لها جدوى في تغيير الواقع، الذي يحتاج إلى تشكل حركات سياسية منظمة ومتجانسة بداخلها حتى وإن بدأ عددها قليلاً، تنطلق في التعامل مع الواقع من قراءة اقتصادية واجتماعية نقدية ودقيقة، وتقوم بعدها بتقديم خطاب سياسي عملي لا يخضع للمزايدات ولا المهاترات، ولا تتعالى على الإقرار بالحقائق مهما كانت مريرة، ولا تعيد تكرار أخطاء الماضي، حين تواتيها أي فرصة للتحرك السياسي في الشارع ستفرضها الظروف إن عاجلاً أو آجلاً. أما المواقف التي يتبناها أفراد فمهما كانت شجاعة وحسنة النية، فإنها لا تصلح في نهاية المطاف إلا شهادة حسن سير وسلوك تخص أصحابها، أو في أحسن الأحوال عبرة وتذكرة، إن نفعت الذكرى.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.