في الذكرى الثالثة والعشرين لوفاة الشيخ إمام

في الذكرى الثالثة والعشرين لوفاة الشيخ إمام

07 يونيو 2018
+ الخط -

اعتدتُ من سنوات في الأسبوع الأول من حزيران/يونيو - كون ميلادي جاء في ثامن أيامه - أن أنشئ نصًا ما، أحياناً أختصر فيه مجريات عامي ومستجدَّاته، وأحياناً أتحدث عن فلسفة الزمان وحركة السنين، لكن مع مرور الوقت، وتكرُّر الحال، ازدادت عادتي هذه برودة، وضعف اكتراث نفسي بها، فخبا شيئا فشيئا معنى الأسبوع الأول من حزيران، ولم يعد موعدا سنوياً لفتح مذكرة وإنشاء خاطرة ما. 

إلى أن اكتشفت خلال العام الماضي وأنا أطالع قطعًا متفرقة من سيرة واحد من أكثر الأشخاص تأثيرًا على شخصي، وأشدهم عمقًا في نفسي، المطرب إمام عيسى المشهور بالشيخ إمام، حين اكتشفت أن وفاته جاءت في السابع من حزيران من العام نفسه الذي ولدت فيه عام خمسة وتسعين، أي أن الفاصل بين وفاته وميلادي ساعات قليلة، وربما تكون أقل مما أتوقع إذا أخذنا بالاعتبار الإجراءات القانونية والتسجيلات وأن فرق يوم فيها فرق هامشي. 

لا أدري أي معنى قد تحمل لي هذه المعلومة بشكل شخصي، وأي شيء جعلني أشعر بالغبطة والفرح لأجلها، لكن لسبب ما، ولشدة ما تعلَّقتُ مؤخراً بالشيخ وأغانيه شعرت أن المعلومة تخصني، وأنها تعني لي شيئًا، لذا صرت حين أذكر الشيخ إمام لأحدهم، وأشرح له شيئًا من أخباره أؤكد له أنه توفي تمامًا قبل ساعات معدودة من ميلادي، صحيح أن أحد أصدقائي رد بخفة وثقة: "إذن ميلادك نحس"، وصحيح أنه بعد التفكير سأجد أني بالفعل حُرِمْتُ حتى لو ساعات قليلة يتقاطع فيها زماني بزمانه، لكن لم أرد لأي من هذه الأفكار أن يفسد علي جوَّ اغتباطي بهذه المعرفة، لذا أفتح اليوم مذكرتي وأكتب لا عن ميلادي ولا مرور السنوات بل عن الشيخ إمام.

حاول أن تبحث عن اسم "الشيخ إمام" واختر واحدة من أغانيه، أياً كان الذي ستختاره ستستمع إلى تسجيل قديم؛ آثارُ الزمن العابث واضحة فيه، أنصتْ؛ ستسمع آلة موسيقية واحدة هي العود، وأحياناً يكون مصحوباً بضربات متفرقة على الدف، وصوتَ رجل سيبدو لك كبيراً في السن، ما سيلفت نظرك أن هذا الرجل يتنَحنح قبل أن يصدح بمقطع ما، يتفاعل مع النغم ويبدو واضحًا لأي أحد أنه يغيِّره في اللحظة، وأنه ليس شديد الالتزام به، يَضحك حين يغني مقطعًا طريفًا، يضحك ضحكًا عفويًّا وليد اللحظة، ستسمعه كذلك يخشِّن صوته ويضخِّمه كأنه حكاوتي يقصُّ الكلمات ولا يغنِّيها.

مَنْ حولَه - الذين تبرز أصواتهم وتفاعلاتهم أحياناً في التسجيل - ليسوا على الإطلاق جمهورًا حقيقيًّا، تشعر كأنهم مجموعة أصدقاء أو أقارب، حتى المعيدون لا تشعر أنهم ملتزمون بنمط معيَّن وخطة محددة كما تجري العادة، فأداؤهم كأداء شيخهم عفوي ..

بعد أن تكتشف كل تلك التفاصيل عليك أن تُجاريها، أنت هنا لا تستمع لأغنية سُجِّلت بعد عشرات البروفات، ولا لتسجيل عدَّل عليه مهندسو الصوت، فحذفوا وأضافوا، في أغاني "الشيخ إمام" ستشعر أنك تستمع للبروفا، ليس لوجود عيوب ولكن لبساطة الأمر، وللتحرُّر من أي قيود، هنا عليك أنت أيضًا ألا تكون تقليديًّا، وأن تغيِّر عاداتك في الاستماع، هنا يجب أن تتخيَّل نفسك جزءاً من العرض، ستشعر كأنك جالس بكرسيِّك بجانب الشيخ، وليس في مدرج مقابلَه.

الشيخ إمام الذي بدأ حياته بحفظ القرآن ثم اشتهر في المحافل قارئاً له ومن هنا اكتسب لقب الشيخ، ثم قادته الأقدار ليلتقي بالموسيقي درويش الحريري فتعلم على يده الموسيقى، وبدأت رحلته مع الإنشاد والطرب، وكان إنما يُغنِّي ويملي الألحان على صديقه الذي يعزف له بالعود، فقد ظن أن الكفيف ليس بمقدوره أن يعزف العود، حتى التقى صدفة في أحد المحافل بكفيف يغني ويعزف، فغضب لذلك وعزم أن يتعلم، وطلب من زميله أن يريه كيف يضع أصابعه على الأوتار ثم راح يطبق كل ما تعلمه في السنوات السابقة على العود، ويمرن حنجرته ويده، حتى احترف الأمر سنة 1945.

وفي سنة 1962 التقى الشيخ إمام برفيقه أحمد فؤاد نجم ، بعد أن سأله الأخير عن سر عدم تلحينه رغم براعته الفائقة في العزف؛ فأجاب أنه لا يجد الكلمات التي تستحق، فجاءه نجم بما يشتهي.

من نجم في الغالب، ومن بضعة شعراء شعبيين آخرين؛ انطلق الشيخ إمام يصدح بكلمات من المعجم المصري البسيط والدارج، تتناسب مع المشهد الذي صوَّرته لك، بل ستشعر في لحظة ما أنها لا يُمكن أن تُغنَّى إلا في جوٍّ كهذا، رغم بساطتها لكنَّها في تركيبها ومعانيها ترتقي بك عالياً، تحلق بك لتريك من علو - رغم الغيوم الخنَّاقة - عشقَ الفلاح لأمِّ سنابله، حين يفرد عباءته على غيطه المغمور بالعرق، ويحتضن أمله بعد شوقٍ بعينيه ويديْه المعروقتين، وفي ذات بستان الأمل تُريك العامل المستنظر مادَّاً يدَه التي شقَّقها العمل لحلمه العنيد، مادَّا ناظريه إلى البحر الضاحك رغم جرحه الذي لا يندمل، على شاطئه صبية مصرية "تتدلع" وهي تملأ القلل، لتسقي أسيادها وهي عطشى، لا يرويها سوى مرسال محبوبها الذي يجلس على الضفة الثانية يغني ويعزف بالعود، حتى غدا في العشق مثلاً، هذا العاشق الذي لن يتوب عن حبها حتى لو خاصمته وغابت عنه سنين، فهو عكس العشاق الآخرين أمله في الحب هو الحب نفسه.

بهذا الكلام غير المدهون ورنيش، ومعانيه التي ليس عليها غبار، غنى الشيخ إمام الذي يحمل بيديه عوده القوَّال الجسور، ليغدوا لكلّ محبٍّ للفن والكدِّ والحلم وكاره للظلم والاستبداد والتجبُّر مثلاً.

دلالات

49C862A0-0384-4760-9420-195E6917C8AE
يزن التميمي

طالب فلسطيني في ألمانيا، مواليد الخليل 1995.