المواطن والدولة المسيسة

المواطن والدولة المسيسة

25 يونيو 2018
+ الخط -
لماذا تبدو أحداث عالم اليوم شديدة التعقيد بل وغير قابلة للفهم؟ لماذا يبدو الأمر اليوم كما لو أننا نشاهد مسرحية خرجت عن سيطرة الكاتب والمخرج؟ كثيرة هي الأطروحات التي سعت إلى تبين منطق أو ما يمكن اعتباره معنى في حدوده الدنيا، لتفسير ما يحدث في عالم اليوم ومن بينها أطروحة المفكر الألماني المعاصر يورغن هابرماس الذي يري أننا نعيش انقلابا كبيرا في علاقة السياسة بالمواطن وأننا وعكس ما هو رائج نعيش اليوم تجريد المواطن من دوره السياسي بإحالة المسائل السياسية التي هو مطالب بالحسم فيها في نقاش عام وعقلاني إلى الدولة وجيشها من الخبراء والمختصين.

في تقدير هابرماس، فإن المجال السياسي هو مجال مناقشة المسائل التي تهم العيش المشترك ومناقشة القيم والمعايير التي يجب أن تتقيد بها المؤسسات الاجتماعية المختلفة بتحديد منزلتها وأدوارها وعلاقتها بغيرها من المؤسسات، وخاصة حدود مجال اختصاصها وغايتها الخاصة.


وفي تقديره أيضا، فإن هذا المجال السياسي تشكل مع بداية الحداثة لحظة تشكل فضاء عمومي تلقائي طرح على نفسه مناقشة القيم التي يجب أن تهتدي بها الدولة والمجتمع بمختلف مؤسساته، ومناقشة علاقة كيان الدولة بالمواطن وعلاقة هذا الأخير بالدولة. هذا الفضاء العمومي لعب دورا حاسما في تحرير المجتمع والدولة من الكنيسة ومن الإقطاع وسمح تدريجيا بتحرر الفكر والمبادرة الاجتماعية والاقتصادية وأفضى إلى ما نراه من تقدم..

لكن هذا التقدم الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يعود له الفضل في نشر قيم الحرية والإنصاف سرعان ما جرت السيطرة عليه من طرف رأسمالية متوحشة عملت على تطويع المؤسسات الاجتماعية لمعايير النجاعة والمردودية واستولت في النهاية على كيان الدولة وحولتها إلى أداة لمراكمة الربح الذي تحول إلى غاية في حد ذاته.

ما يضيفه هابرماس ومكمن طرافة أطروحاته في هذه القضية هو تحليله للكيفية التي تم بها هذا الانقلاب ببيان أن هذه الرأسمالية أخضعت المجتمع بالأدوات التي تمكن بها من التحرر، أي بواسطة منطق الفضاء العمومي ذاته بمسخ أداء مقومات هذا الفضاء، فتم قلب الثقافة إلى صناعة ترفيه وتحويل المؤسسات الاجتماعية إلى كيانات مستقلة تبرر لذاتها أهدافها، وأخيرا بإفراغ الممارسة الديمقراطية من مضمونها الأصلي عبر التحكم في مدخلات ومخرجات العملية الانتخابية.

أفرغت الرأسمالية المتوحشة النقاش العام من رهاناته وحولته إلى مجرد صراع حول حلول جاهزة محددة مسبقا، وهي بذلك أفرغت النقاش السياسي من دوره الإبداعي للبدائل وحولته إلى صراع حول خيارات مفروضة، وجردت المواطن من دوره السياسي في مناقشة بدائل وخيارات من خارج الحلول الجاهزة التي يقدمها الخبراء عبر تجريده من أدوات هذه الممارسة أي النقاش العام الذي لا سلطة فيه إلا لقوة الحجة.

بهذا التقدير فإن ما نشاهده اليوم من ممارسة سياسية أو من إنتاج ثقافي أو مؤسسات اجتماعية هي صنيعة هذه الرأسمالية المنتقلة التي لا تحكمها أي قيمة غير النجاعة، أي مراكمة الربح إلى ما لا نهاية ودون أي غاية غير هذا الربح ذاته. ولما لم يكن لهذا المنطق أي معيار غير ذاته تبدو الأحداث ليس فقط بلا منطق بل وبلا معنى.

ما تم فعليا هو تجريد الإنسان من دوره السياسي الأصلي وإفراغ أدواته من مضمونها، فما نشهده من حوارات هي في معظمها صراعات حول حلول جاهزة تصب في غاية واحدة، وما نراه من ممارسة ديمقراطية هي في أغلبها عمليات انتخابية متحكم في نتائجها.
EC32DA2A-74EF-41CA-9CB9-BB81EF435C77
بلقاسم كريسعان

دكتور في الفلسفة السياسية من جامعة باريس... مهتم بالشأن العربي بشكل عام، والتونسي بشكل خاص.