الوعد أصبح وصية في زمن آفة "المال السياسي"

الوعد أصبح وصية في زمن آفة "المال السياسي"

21 يونيو 2018
+ الخط -
يقال إن الصحافيين يكتبون النسخة الأولى من التاريخ، وتاريخ ثورتي لا يختلف كثيراً عن تاريخ العرب، نكبة وراء نكبة، ونكسة تجر نكسة. إن الثورات في هذه البلاد مخاضها عسير وموتها محقق، وكل ما تحت هذه الأسطر أكتب فيه لأجل الوطن، وجُلُّ ما أتمناه هو إيقاف شلال الدماء فيه.

فما زالت الدماء هي الموقف وكل الموقف في وطني. سبع سنوات مضت على أول مظاهرة للحرية في وطني، واليوم أكتب متجرداً من مشاعري تجاه ثورتي، متصالحاً مع ذاتي التي أتعبها الوجع وما آلت إليه الأمور.

فمع كل جلسة عائلية أحاول فيها الهرب من السياسة والأخبار بحثاً عن قليل من الراحة النفسية أجد نفسي وسط معمعة سياسية أعقد من اجتماعات الأمم المتحدة. اليوم أحاول الهرب من كل شيء، من وطني، من الأخبار المتعبة التي تلاحقني، من فشل العسكريين والساسة الذي ألقوه على كاهل الإعلام، من فشل وسائل الإعلام ومراكز الدراسات والأبحاث والفصائل، من فشل الإغاثيين ومن ذاتي أيضاً، وكم أحسد أولئك الذين استشهدوا في الأيام الأولى من الثورة، لم يكونوا شهوداً على شيء، ولم يُحَمّلهم أحد مسؤولية ما وصلنا إليه، فهل يُعتبر ذلك خيانة أو تهرباً من المسؤولية، لا أدري واليوم تحديداً أفضل أن لا أدري.


قال لي صديقي الأوروبي الذي يعمل في مجال الإغاثة في الشرق الأوسط منذ 20 سنة، إن "هذه البلاد كتب للثورات فيها أن تموت، ربما لن ترى نتائج ثورتك، قد يراها الجيل الثاني أو الثالث، أنتم الشباب لا تدركون ذلك".

لقد ماتت الثورة يا صديقي منذ أن أصبح لكل فصيل عسكري مكتب سياسي، ومنذ أن أصبح لدينا ألف مركز دراسات، وألف وسيلة إعلام، وستون ألف مؤسسة إغاثية. إن المال السياسي أفسد كل شيء أفسد البندقية، وأفسد اللحى والعباءة، وأفسد الأزواج والزوجات.

لم يعد باليد حيلة، إننا نجلد قلوبنا كل يوم ألف مرة، ونصلب الأقلام بجرم ما اقترفته البنادق، فلا الأقلام ترحم بعضها ولا البنادق وحدّة نيرانها. يا صديقي لا يمكن أن نفصل البندقية بعيداً عن القلم ولا يمكن أن تنجح ثورة بواحد منهما، لكن حينما تصبح البندقية عبئاً على الثورة ماذا نفعل، فالبندقية التي لا ثقافة خلفها تقتل ولا تحرر.

حينما خرج بشار الأسد على شاشة التلفاز في الأيام الأولى للثورة يتحدث عن "المؤامرة الكونية" لم يكن كاذباً، بل كان منافقاً، نعم كانت مؤامرة على الثورة والشعب. إن الشعوب في بلادنا ليست لها حيلة، شغلها أن تبحث عن رغيف الخبز الممرغ بالدماء والكرامة، فماذا تصنع وما قدرها إلا أن تكون أرقاماً في سجلات الضحايا، هذي الشعوب حُق لها أن تموت.

لكن لماذا الموت، خمسون عاماً من العبودية والانكسار فهل تكفيها سبع سنوات للخلاص، ولماذا نحمّل الأمور أكثر مما تستحق، لماذا نداوي دمامل الأطراف ونترك نزيف القلب. لقد خذلنا بعضنا، فلماذا نطالب العالم بنصرتنا؟ عذراً على ذلك، لكن هو الواقع المر الذي نعيشه ونخشى الحديث عنه. إننا نكذب على أنفسنا بمعارك هنا وهناك يساق لها الأبرياء قرابين، معارك لا نملك فيها قرارنا، لا نملك فيها سوى الزج بشبابنا في غياهب الموت.

أذكر حينما استشهد صديقي وقفت على حافة القبر أبكي. لقد وعدته أن أعود يوماً لأخبره بأن الثورة التي دفع لأجلها دماءه انتصرت. أعتذر مرة أخرى يا شهيدي، إن الوعد أصبح وصية، تماماً كما مفتاح الفلسطينيين الذي أثقل به الأجداد كاهل الأحفاد، تماماً كحق العودة الذي يطالب به هذا الجيل المسكين. إن آفة المال السياسي أفسدت كل شيء، فلم يعد القرار قرارنا ولم تعد الأقلام والبنادق شريفة.

كل ما يمكن قوله يا صديقي: لا ندري أين نمضي، لكن لا تقلق "لن يضيعنا الله"، وما يصبر قلبي ويواسي ألمي قوله تعالى "مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ".

دلالات

809DA632-AF3E-409D-9FE0-3C85DAEC147E
وليد النوفل

صحافي سوري من محافظة درعا جنوب سورية، أقيم حاليا في العاصمة الأردنية عمان، أسعى إلى تسليط الضوء على معاناة أبناء شعبي عبر نشر تقارير وتدوينات تروي ما يحصل في وطني محاولا نقل الصورة الأقرب للحقيقة والواقع.

مدونات أخرى