المرأة وتجارة الممنوعات

المرأة وتجارة الممنوعات

10 يونيو 2018
+ الخط -

في الصف الثالث ابتدائي كانت أول مرة أتعرف فيها على كلمة "حيض". كانت الكلمة واردة في منهج التربية الإسلامية مع كلمة أخرى هي النفاس. شرحت لنا المعلمة معنى النفاس وبكل خجل طلبت منا أن نسأل أمهاتنا عن معنى الحيض!

ترددت مراراً قبل أن اسأل أمي ما هو الحيض، فالسرية التي رافقت الموضوع أرهبتني. ذهبت لأختي الكبرى وسألتها بوشوشة ما هو الحيض؟ ضحكت وقالت لي شيء يخص المرأة عندما تكبرين ستكتشفينه بنفسك!
زاد فضولي وزاد بحثي عن الموضوع، وكانت لي صديقة مقربة قالت إن والدتها أخبرتها عنه، لكنها رفضت إخباري لأن والدتها أقسمت عليها ألا تخبر أحدا.
لك أن تتخيل فضول فتاة في السابعة تحاول اكتشاف نفسها مبكرا ولا تعلم حتى من أين وكيف تبدأ. لقد بدا الأمر سرياً ومشيناً في آن واحد. لذلك استجمعت قوتي وذهبت لأمي وأنا متأكدة من أنها ستوبخني لكنها كانت طريق المعرفة الأخير. وعلى عكس ما توقعت فقد أجابتني بشيء من اللامبالاة: "الحيض نفس النفاس، بس الحيض كل شهر وبدون جاهل*"!
ولأن المعلمة شرحت لنا ما هو النفاس فقد كونت صورة مبدئية عن الحيض، لكني استدركت وسألت أمي: لكن ليش هو عيب!! فقالت أنه ليس عيبا لكنه سر من أسرار النساء.
وهكذا أخمدت فضولي تجاه هذه المفردة العجيبة التي سببت لي توتراً لأيام.
بعدها بفترة كنا في زيارة لأحد أصدقاء الوالد وكنت وأخي ننتظر في السيارة أمام بقالة كبيرة. هناك لفت انتباهي أنهم يبيعون منتج always ولأننا، أي جيل الثمانينيات، لم نكن نعرف إلا إعلانات السمن والصابون، فقد توقعت من الإعلانات المتكررة لأولويز أنه شامبو رغم أني لم أعرف يوما لماذا يسكبونه على فوطة عوضاً عن الاستحمام به كباقي إعلانات الشامبو! ولن أخبركم كم أصررت على والدي أن يشتري لنا هذا الشامبو!!
لقد كرست المجتمعات ثقافة العيب تجاه جسد المرأة والكثير مما يتعلق به. فليست القضية مجرد جهل مجتمعات نائية أو تشدد فئات معينة. إنها ثقافة عالمية والدليل أن الصورة التي نشرتها بعض الفتيات مُؤخّراً لفتاة نائمة وعلى سروالها بقعة دم أثارت غضب المئات والآلاف من الناس، حتى ممن اتفقوا مع المقالة المرفقة مع الصورة. ما لا يعلمه الكثير أن روبي كابور، الفتاة التي في الصورة، عندما نشرت صورتها تلك على إنستغرام عام 2015 قامت إدارة إنستغرام بحذف الصورة! وكأنها صورة مشينة أو مخزية.

نشاهد العديد من صور العنف والقتل والإغراء والقذارة على كل وسائل التواصل لكن صورة بقعة صغيرة في ملابس فتاة بدت مشينة لحد كبير يجعل إدارة إنستغرام تقرر حذفها وفورا!
إن الطريقة التي يتم بها تعريف الحيض هي ما يجعله شيئاً معيباً ومخزياً وقذراً. وأعتقد أن البداية كانت مع ظهور الديانات. فالديانة اليهودية تنبذ المرأة في فترة حيضها تماماً. والكثير من الحضارات فعلت ذلك بسبب خرافات لا علاقة لها بالواقع، لذلك كانت تفضل النساء إبقاء فترة حيضهن سراً. وبالرغم من أن تلك الحضارات انتهت وتلاشت إلا أن الخرافة ترسخت في الثقافات الشعبية.
ومع ذلك فهناك حضارات قدست المرأة كالحضارة المصرية وبالتالي فقد اعتبروا دم الحيض رمزاً للخصوبة وحتى أن بعضهم كان يستخدمه للتداوي! كما أن القرآن ذكر الحيض في عدة سياقات بشكل صريح ولم يعرض عنه على أنه رجس وحتى عندما تحدث عن العلاقة الجنسية في فترة الحيض قال عنه بأنه "أذى فاجتنبوه" وهو ما لا يحبذه غالبية أطباء العصر الحديث.
نجد أن ما ترسخ في العادات والثقافات الشعبية هو تراكم خرافات وأفكار دينية توراتية وغيرها من الديانات اللاكتابية التي تستنقص من قدر المرأة وتعتبرها كائناً أقل قداسة من الرجل. وأنا في الصف السادس كنت أشاهد التلفاز مع أخي وبعض أولاد العائلة، وعندما جاء إعلان أولويز بدأوا بالتغامز، ولأن ما أعلمه عن الحيض هو ما علمتني والدتي فقد التفت إليهم بكل ثقة وقلت: هذه فوط ترتديها المرأة عندما تحيض، لا يوجد ما هو مضحك في الموضوع، هل تتغامزون عندما تلد أمهاتكم!

لم أكن قد اكتشفت نفسي بعد كما قالت لي أختي، تأخر الأمر حتى أصبحت في الصف العاشر. وعندما ذهبت لشراء فوط صحية قام الصيدلاني بلفها في جريدة ووضعها في كيس أسود وناولني إياها متظاهرا أنه مشغول بشيء آخر! ولأنها أول مرة اشتري فيها فوطاً صحية فقد تصورت أنه عرف تماما أنها لي لذلك شعر بالحرج وغلّف الموضوع بكل تلك السرية. لكنني بعدها وجدت أن الجميع يقوم بتلك الحركة والجميع يشعر كأنه يبيع ممنوعات! حينها بدأت أدرك سر اللون الأزرق في الإعلانات التجارية، والكيس الأسود في يد موظف عائد من الدوام، وهوس الفتيات باللون الأسود أيام الدورة، والكفوف القطنية التي ترتديها مدرسة القرآن من فترة لأخرى.
بعض الأشياء من الجميل أن نضيف لها قداسة أو خصوصية أو سرية لكن يجب أن لا تعرضنا تلك الممارسات لضرر بالغ. من المهم أن يتعرف الرجل إلى التغيرات النفسية والفيزيولوجية للمرأة خلال فترة حيضها، كما يجب أن تفهم كل فتاة ذلك أيضا. معرفة الألم الذي تعاني منه غالبية الفتيات وتقلبات المزاج والروتين العام يجعل الجميع قادرا على معالجة الموضوع بصورة جيدة.
أحيانا يجب صدم الجمهور إذا لزم الأمر، وقد أعجبت شخصيا بفعل كابور لأنها حطمت تابو لا يأتي على ذكره حتى أولئك الذين تجاوزوا كل التابوهات. وكانت تلك الصورة رغم بساطة فكرتها وبديهيتها ثورة نسوية تعلن فيها الفتيات في العالم الأول عن عادية الأمر، وأنه لا يوجد ما يجعله جرما أو عيبا إلا معتقدات الناس وتراكمات الجهل.
حتى وقت غير بعيد وقبل اختراع الفوط الصحية كانت النساء في القرى يذهبن لنزع الماء أو للرعي أو للعمل في الحقول ودماء حيضهن تسيل حتى تختلط بالتراب الذي يسرن عليه، وكما أخبرني كثرٌ ممن عايشوا تلك الفترة فإن جل ما كانوا يشعرون به تجاههن هو الأسى. لذا وبالرغم من أننا محظوظات بهذه الخصوصية التي منحنا إياها ذلك المنتج المغلف بورق الصحف والأكياس السوداء إلا أننا فقدنا شعور الآخر تجاهنا بالأسى وتقديره لفترة مؤلمة من كل شهر.
لنتخيل لو تم شرح الحيض بطريقة مبسطة جدا وهي أن الرحم يتجدد شهريا في انتظار بيضة ملقحة ليحتضن جنيناً يحضره إلى هذا العالم، لكنه عندما لا يجد البويضة يتمزق ويتخلص من جداره ويبدأ بعدها دورة انتظار جديدة. وهكذا يغدو جسد المرأة عرضة للتعب بسبب سقف جدار الرحم العالي الذي لا ييأس إلا في سن متقدمة من عمر المرأة. ألا يبدو الموضوع عاديا جدا، بل ومثيرا للإعجاب بهذا الجسد الذي لا يكل في محاولاته الشهرية لإحضار طفل لهذا العالم! ألن يكون الأمر أكثر سهولة حين يقول الرجل "أعتذر، ليس اليوم، فزوجتي تعاني من آلام الدورة الشهرية ويجب أن أساعدها" عندما يعتذر عن دعوة غداء مثلا تماما مثلما سيقول وبكل بساطة عندما يعتذر لأن زوجته ولدت أو أسقطت. أليس الفارق الوحيد هو غياب الحيوان المنوي المذكر؟!
فتيات كثيرات يعانين بصمت، فمجرد وضع يدها على خصرها لتسند الألم سيفسر أنه وقت عادتها الشهرية، لذلك ستجد أمهات يصرخن في وجه بناتهن: عيب! فلم يعد العيب حصرا على الفعل نفسه وهو سيلان الدم فقط، بل تفرع حتى شمل كل ما يخص الحيض. والمؤسف حقا هو أن الحديث عن الموضوع مع بعضهم يبدو خروجا عن القيم الأخلاقية والدينية، مع أنهم قد يتحدثون عن أمور أخرى أكثر فظاعة من دون أن تصيبهم لسعة العيب!

*جاهل باللهجة اليمنية تعني طفل

50228739-0847-4184-9784-6EA5B34CBE16
سبأ حمزة

أم لثلاثة أشقياء ونجمة.. الكتابة ابنتي الوحيدة بين ثلاثة صبيان، يحبونها ويغارون منها.. كاتبة وأكاديمية من اليمن. درست الأدب الإنجليزي بجامعة العلوم والتكنلوجيا، وأدرس حاليا في جامعة أوترخت.

مدونات أخرى