المكوّن الديني... مقص لتفصيل الخرائط الجغرافية

المكوّن الديني... مقص لتفصيل الخرائط الجغرافية

06 مايو 2018
+ الخط -

حين قال وزير الداخلية الألماني "هورست زيهوفر" إن الإسلام ليس جزءاً من الألمانية، متبنيا الطابع المسيحي لـ"دويتشلاند"، طغت العديد من الأسئلة، وقتها، كان أبرزها "كيف لوزير دولة ديمقراطية علمانية يتبنى البعد الديني المسيحي في خيارات الهوياتية للفيدرالية".

في الاتجاه نفسه، سار رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق "جيسكار ديستان"، حين حاول إدراج المسيحية كديانة رسمية ضمن ميثاق الاتحاد الأوروبي، غير أنه لم يوفق في مسعاه.

ويعكس تصور "ديستان" موقف المدرسة السياسية اليمينية، المنتمي إليها، فهذه المدرسة لطالما اشتغلت على تأصيل الهوية الأوروبية الوطنية والقومية في مواجهة صعود الهويات المتعددة التي تهدد تماسك المجتمع الأوروبي المسيحي.

وشهدت فترة ترؤسه للجمهورية صعود الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة، لاسيما ما يعرف بحركة "بور" (مصطلح يطلق على المهاجرين المولودين في فرنسا من عائلات شمال أفريقيا).



وشكل هذا الصعود إعادة طرح الوجود الإسلامي في فرنسا كعنصر انتماء ثقافي وفكري واجتماعي وبات مطلب الهوية يفرض نفسه على أرض الواقع، بعدما كانت هذه الفئة من المهاجرين تنادي بالمطالب الاجتماعية والإنسانية.

على ضوء ما سبق، يبدو لي أن صعود تيار التطرف الديني في أوروبا يوحي أن إشكاليات عودة الدين كمعطى هوياتي وليس ديني هو جزء من محاولة فك الارتباط الثقافي بين الوطن والوطن الأم أو محاولة التخلص من السيطرة الثقافية الغربية المشكلة من الثنائية (الانتماء المسيحي الكاثوليكي أو اللائكي اللاديني).

وانعكست هذه القطيعة على ظاهرة التدين في وسط المهاجرين، عبر التحاق جزء من أبنائهم والمتحولين دينيا للإسلام بالجماعات الجهادية، بعد تحقيق مطلب المواطنة والتجنيس.

كما أصبح الفرد المسلم في الغرب يطالب بالبحث عن أنموذج الرجل المؤمن في الفضاء الأوروبي، من خلال البحث عن دار الإسلام كفكرة متخيلة تستقطب عقول هؤلاء الشباب، ليستقر بهم المطاف عند حدود "طوباوية" خلافة الدولة، التي صارت الملجأ لتجسيد الحلم المفقود في الفضاء الغربي.

هذه القفزة المطلبية التي عرفتها طبقة المهاجرين بعد انشغالها بالمسائل الاندماجية والترقية الاجتماعية والعدالة، دفعتهم إلى البحث عن الفضاء "الوجودي - المتخيل"، عبر التدين بشكله الاستفزازي والعنيف، الذي عادة ما يصطدم مع الآخر المغاير والأسس البنيوية الأوروبية.

في تلك الأثناء، كان صعود اليمين المتطرف سببا ونتيجة تعدد الهويات غير المتوافقة مع تاريخيانية أوروبا، فعودة هذا التيار واستقواؤه، يعكسان جملة من التصورات تجاه المكون الآخر كعنصر "المؤمن - المسلم"، الذي يحاول فرض وجوده وذاته.

وبالتالي، بات يشكل المكون الديني المسيحي فاصلا بينهما لتحديد الفروق، بدل التجنيس، مما أنتج عودة المجتمع الكاثوليكي وانتشاره في كل الأوساط، حتى اليسارية المتطرفة منها، على حساب تراجع التيارات العلمانية والشيوعية ورجوع الخطاب الكنائسي واقتحامه المجال السياسي والثقافي.

وما نعيشه اليوم من إشكالية عودة الدين كقيمة رد فعلية تجاه الآخر، تصنعها التخوفات من رفض التعايش أو التنصل من الهيمنة أو البحث عن الأنا في فضاء صراعاتي، مما يبرر العنف كمحاولة للحماية من السيطرة ويشرعن للقوة في محاربة الإرهاب ونشر العولمة ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.

قياسا على ذلك، فُسر تولي "دونالد ترامب" سدة الحكم في أميركا بعودة تيار المحافظين الجدد، ممن عارضوا التوجه الاحتوائي والتصالحي لـ"باراك أومابا" تجاه حركات الإسلام السياسي وإيران وقضايا الشرق الأوسط.

ومعروف عن المحافظين خطابهم المتشدد ومواقفهم العدائية تجاه إيران وحركة الإخوان المسلمين ودعمهم التواجد الإسرائيلي الجغرافي على حساب الفلسطينيين واستخدامهم القوة العسكرية والمصادمة مع الشرق المتوحش.

وعند إسقاط ذلك على العالم العربي، يتبين جليا عودة الديني في استخدامه في الحقل الجيوسياسي والجيو إقليمي، ذلك أن عودة إيران إلى الساحة العربية والتوسع في المربع السوري واليمني واللبناني والبحريني هما تحت ذرائع مختلفة ومتباينة.

يقابل ذلك، حملة سعودية وتركية في توظيف السنة في صراعاتها الجيو سياسية والتموقعات الإقليمية، حتى صارت دول، بينها الجزائر ومصر، تستخدمان في أدبياتهما الديبلوماسية على أنهما تنتميان إلى المحور السني، بعدما كانتا من دول المحور القومي التحرري.

وتبرز أشكال أخرى في عودة الديني في النزاعات والصراعات الشرق الأوسطية، منها التدخل الروسي في سورية الذي يتم عبر الدعم السياسي والديني للكنيسة الأرثوذكسية الروسية لصالح الأقلية الأرثوذكسية في منطقة الشام.

ومازال المخيال الديني، عند المسيحيين ممن يعتقدون بعودة المسيح ولدى المسلمين ممن ينتظرون المهدي، وكلاهما يجتمعان حول فكرة خلاص المجتمعات من الرذيلة والظلم وعودة الفضيلة والعدل والسيطرة الدينية.

والملاحظ أن العولمة أصبحت تشكل عنفا على ثقافة الفرد وخصوصية الوطن القُطري وأضحى مفهوم التعولم مرادفا للاستعمار الجديد، الذي يبرر استخدام العنف الدولي وشرعنة القوة العسكرية في تفكيك الأوطان والسيطرة عليها.

وفي ظل عجز الدولة القُطرية في الدفاع عن نفسها، تشكلت جماعات تحت تغطيات دينية تحاول الدفاع عن نفسها ومقاومة أشكال الخضوع للهيمنة العالمية.

وفي تقديري، أنه يتعين على الغرب والمجتمع الإسلامي إعادة صياغة مفهوم التسامح الذي يهدف إلى حل النزاعات المنتجة والمصنعة من قبل المجتمعات داخل الكيان الواحد أو المتعدد من أجل خلق نموذج للعيش المشترك.

وتهدف هذه العملية، وفق تصوري، إلى تحقيق الحد الأدنى من التعايش عبر الاعتراف بالآخر من أجل حقه في أداء طقوسه الدينية وتوفير الأمن والتنمية وحياة طبيعية أفضل.