الوجع السوري أكبر من النظام

الوجع السوري أكبر من النظام

26 مايو 2018
+ الخط -
(الوصيَّة)
قولوا لأولادكم بأنّ نصف مليون شخص ماتوا من أجل قليل من الحياة،
أخبروهم بأن الكل تفرّج،
واختلفوا على اندماج الناجين من الغرق.
أكدوا لهم بأن ثمة موتى أيتاماً، وقبوراً قصفت، وأشلاء لم يعرَف أصحابها.
أخبروهم بأنه ثمة من لم يتمكّن حتى أن يخبر أولاده هذه القصة.

(لا لتسخيف الوجع)

خطأٌ كبير، باعتقادي، تحويلُ مسألة الانتقام من النظام السوريّ ورموزه، وخصوصاً طبيب العيون الفيلسوف، إلى مكافئ لتهدئة نفوس الضحايا، وحلٍّ شامل لطيّ صفحة ما حصل. ترعبني فكرة أنَّ رحيل هذه المنظومة هو الثمن الرمزيّ والمعنويّ للألم الذي جرى. هذا خطأ كبير، وتبخيسٌ كبير، لما مرّ به المُتضرِّرون، وتسطيح لعمق هذه التراجيديا الإنسانيَّة. هذا النظام، ورأسه، أسخف من أن يكون ثمن هذا الألم. هذا الوجَع الإنساني أكبر منه بكثير. ومحاسبة هذا النظام ليست سوى جزء من الثمن اللازم، ولكنّه ليس كلّ الثمن. الحل، هو استخلاص قيمة أخلاقيَّة مطلقة، ناموس كوني شامل يصلح لكلّ زمان ومكان، حدّ أدنى إنسانيّ لا يمكن تجاوزه، حتّى من قبل المتضررين (اليهود شكّلوا تراجيديا إنسانيَّة هائلة، ولكنَّ قسماً منهم ابتذلها وسخّفها بإنشاء كيان استيطاني استعماري إحلالي في فلسطين).
ما حصل يجب أن يتحوَّل إلى درس فوق الجميع، درس يؤثّر في التاريخ بعمق، ويجبره ألا يكرّر نفسه.

(خارج اللغة)
لمّا كنتُ أدرس في كليَّة الطب في جامعة دمشق، سمعتُ عن حادثة غريبةٍ مؤكّدة. إذْ قام النظام السوري باعتقال شاب عشريني كان يدرسُ في كليَّة العلوم السياسية في جامعة دمشق، وهذا الشاب معروفٌ بأنَّه مؤيّد للنظام السوري، ويدافع عنه ليل نهار في المجالس العامّة والخاصَّة. في أعوام 2006 و2007 و2008، كان كثرٌ يدافعون فعلاً عن نظام الأسد بحجّة أنّه "مقاوم" و"ممانع"، وخصوصاً بعد حرب تموز في لبنان. المهم، ارتعب الجميع من اعتقال النظام السوري شابّاً مؤيّداً له، يدافع عنه 24 ساعة. بعد أسبوعين، خرج الشاب من السجن، وسأله مقرّبون منه عن القصَّة، فقال بأنَّ المحقّق سأله: "لم تمدح النظام؟ هل هنالك شكّ؟ لم تركّز أنّ النظام وطني؟ هل هنالك نقيض لهذه الصفة؟ هل هنالك أحدٌ قال عكس ذلك، وأنتَ تثبت له العكس؟ من هو؟ من قال لك إنّنا نقبل أن نكون جيدين أو سيئين أو قابلين للوصف؟". 
المركّب الأمني العميق لنظام الأسد، السلطة الغامضة، يرفض التشخيص والتوصيف ولو بالإيجاب حتّى. هذه الحادثة هي فقط من أجل بعض العباقرة الذين يحاولون أن يفهموا النظام السوري "منطقياً"، بالسؤال العبقري التاريخي: "لم يستخدم النظام السوري الكيماوي إذا كان منتصرًا".
دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية:

مدونات أخرى