علاقة جماعة السان سيمونيين بالمصريين (4)

علاقة جماعة السان سيمونيين بالمصريين (4)

21 مايو 2018
+ الخط -
تحدثنا في التدوينات السابقة عن جماعة السان سيمونيين والظروف التي دفعتهم للمجيء إلى مصر والمشاريع التي كانوا يرغبون في تحقيقها فيها والتي كان على رأسها مشروع حفر قناة السويس.

كذلك تحدثنا عن بعض أفكارهم المتعلقة بالديانة الجديدة التي حاول زعيمهم أنفانتان التبشير بها سواء في فرنسا، أو في رحلة أول فوج يسافر إلى الشرق بحثاً عن "الأم" أو "المرأة - المسيح"، وكيف دفعتهم ردود الأفعال الرافضة لأفكارهم تلك، إلى العودة "للنزعة الصناعية الأصيلة في مذهبهم" وتبني الأفكار الأكثر براغماتية المتمثلة في مشاريع بناء شبكات السكك الحديدية، وحفر القنوات المائية (كقناة السويس وقناة بنما)، وتطوير شبكة البنوك، مما سيغير من طبيعة الوجود الإنساني ويجعل العالم كأنه "أُمة كبرى" فضلاً عن أنه وسيلة لحكم الجزء الأكبر من القارات التي تحيط بالبحر المتوسط بنفس المباشرة الموجودة في فرنسا.

ولكن ماذا عن السان سيمونيين أنفسهم؟ هل تأثروا بالمجتمع الشرقي الذي سافروا إليه؟ وكيف استقبلهم هذا المجتمع خصوصاً طبقة الصفوة المتعلمة منهم والتي احتكت بهم بسبب العمل سوياً؟ هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه في هذه التدوينة.

اقرأ أيضا: "السان سيمونيون" في مصر (1)

محاولة السان سيمونيين التقرب من المجتمع المصري
لقد رأى أنصار سان سيمون في مصر وحكم محمد علي فرصة لتطبيق أفكارهم ومشروعاتهم الكبرى ولكن يجب ألا ننسى أنهم قدموا إلى مجتمع شرقي مختلف تماماً عن المجتمع الذي جاءوا منه، وكان عليهم التعرف عليه وفهمه ولذلك نجد بعض السان سيمونيين يتقربون من المجتمع المصري كمحاولة أنفانتان تعلم اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم والالتزام -في رحلته للأقصر- بالتقشف الإسلامي (لا نبيذ ولا مشروبات روحية) وارتداء الجلباب العربي.

كما حاول أنفانتان تصميم زي مستوحى من الزي الرسمي الذي فرضه محمد علي باشا بقوة القانون مع تغيير بعض الألوان وأطلق عليه "زي الشرق".


كذلك، كان في صفوف السان سيمونيين الذين رحلوا إلى مصر، وكان عددهم حوالي 80 شخصاً، كثير من المستعربين مثل بيرون، وأوربان، ونويل الذي تعلم على يد رفاعة الطهطاوي عام 1834. أما برونو فقد بدأ بتعلم اللغة التركية ثم العربية. إلا أن الحاجز الذي كان يصعب تخطيه في طريق اندماج السان سيمونيين في المجتمع المصري كان بالطبع الدين، إلا أنه حتى ذلك الحاجز قد اجتازه بعضهم.

لقد كان توماس أوربان أول من اتخذ قراراً باعتناق الإسلام من بين البعثة السان سيمونية وغير اسمه لإسماعيل أوربان وذلك في عام 1835. وربما يرجع ذلك إلى هويته المزدوجة فهو ابن لسيدة حرة مخلطة كان جدها عبداً أسود. أما والده فكان فرنسياً ينتمى لعائلة ثرية، ولكنه لم يعترف ببنوته. لقد نشط إسماعيل أوربان بعد ذلك عبر الصحف في الدفاع عن الإسلام في الصحف الغربية، وقد توفّي في الجزائر ودفن بالمقبرة المسيحية هناك عام 1884.

كذلك ممن اعتنقوا الإسلام ماشرو وكان فناناً يهوى الموسيقى والرسم، عمل مدرساً للرسم في مدرسة الفروسية بالجيزة وقد غيّر اسمه إلى محمد المهدي وتزوج سيدة مصرية وأنجب منها وهو من صمم قصر سليمان باشا الفرنساوي وفندق الشرق في القاهرة بنهاية عهد محمد علي. كذلك نويل وهو أديب مستشرق اعتنق الإسلام وعمل مع رفاعة الطهطاوي عام 1834.

أما برونو وهو مهندس سان سيموني فقد تزوج من سيدة مصرية قبطية.

كذلك نجد كثيرا من كتابات السان سيمونيين تحاول إحداث فهم وتقارب بين العالم الإسلامي وأيديولوجيته والعالم الغربي. فلقد حدثت مناقشات حول العديد من الأمور منها نظام الحريم والعبودية والتي أقر أوربان بأنه ليس له علاقة بالإسلام. لقد فرّق بين الدين الذي حث على تحرير العبيد وبين العادات الموروثة.

اقرأ أيضا: حلم السان سيمونيين بحفر قناة السويس (2)

تأثر بعض المصريين بأفكار السان سيمونيين
يجب هنا أن نفرق بين من احتكوا من المصريين بالسان سيمونيين وتحمسوا لمشاريعهم وتأثروا بشكل أو بآخر ببعض أفكارهم، وبين من أعلن عن اعتناقه لأفكارهم. لقد كان احتكاك السان سيمونيين المباشر بهؤلاء المثقفين الذين كانوا في الغالب من أصل تركي شركسي، الذين أرسلهم محمد علي في بعثات تعليمية في الخارج ولا سيما فرنسا، ليصنع منهم إطاراً لدولته وعادوا إلى مصر في الفترة نفسها على وجه التقريب التي أتت فيها الحملة السان سيمونية. إلا أنه كان من الصعوبة على من يتحمس لأفكارهم أن يعلن عن ذلك في ظل حكم سلطوي كحكم محمد علي يرفض أي توجهات خارجية، ولذلك لا نستطيع أن نعطي إحصاءً يوضح عدد من اعتنق فكرهم.


لكن هناك نماذج تبدو لنا واضحة كإبراهيم باشا أدهم الذين كان رئيساً للمجلس الأعلى للتعليم منذ عام 1838 وأعلن عام 1835 انضمامه للسان سيمونية وكان شديد القرب والتعلق بالقس أنفانتان كما قال لامبير، وقد حاول تكييف المبادئ السان سيمونية مع الثقافة الإسلامية، إلا أن محمد علي باشا عزله من مشروع القناطر الخيرية بسبب الغضب عليه لدوره في إقحام السان سيمونيين بالمشروع.

كما انضم إلى مجموعة السان سيمونيين الصغيرة (وهم لامبير وبرونو وبيرون وماشرو) التي اختارت أن تعيش في مصر بعد رحيل أغلب أعضاء الجماعة عبد الرحمن رشدي المدرس بمدرسة بولاق والذي تدرج في المناصب حتى حصل على البكوية في عهد عباس. وكان رشدي يميل بوضوح إلى الغرب حتى في حياته الخاصة والدليل على ذلك أنه طلق زوجته ليتزوج من سيدة فرنسية، حيث أقر بضعفه أمام السحر الروحي لنساء أوروبا. وقد انضم الاثنان إلى مذهب الأب ووضعوا صورته في مكان مميز بمنزلهما. وبعد إقالته من منصبه في 1850 بسبب ميله للأتراك والفرنسيين، تذكر هويته المالطية فقام بإصدار جواز سفر إنكليزي، وفكر باعتناق المسيحية من أجل السفر لأستراليا، إلا أن موت عباس وتولي سعيد الحكم كان بداية لمرحلة جديدة ذات توجه لأصدقاء الأوروبيين، فتم استدعاء أدهم من القسطنطينية بعد أن تم العفو عنه، وتعيين رشدي وكيلا للتجارة ومديرا للشركة المجيدية بجانب عدة مناصب أخرى.

اقرأ أيضا: السان سيمونيون وحقوق العمال في مشروع القناطر الخيرية (3)

يحوي أرشيف السان سيمونيين الكثير من المعلومات عن علاقات عمل لهم ببعض المصريين، كذلك فقد تتلمذ بعض المصريين على يد أفراد من السان سيمونيين كتتلمُذ محمد بيومي ومصطفى بهجت ومحمد مظهر على يد أوجست كونت في باريس أثناء بعثتهم التعليمية هناك.

ولا ننسى أن كونت كان الابن الروحي لسان سيمون. وقد ظلت تربطه علاقات صداقة بهؤلاء التلاميذ حتى بعد عودتهم إلى مصر، فحينما سافر محمد أفندى مظهر إلى فرنسا وإنكلترا في زيارة عمل، قابل كونت وأرسله بخطاب إلى الاقتصادي الإنكليزي المعروف جون ستيوارت مِلْ في إنكلترا لكي يتعرف عليه ويساعده في مهمته. وقد أثنى كونت على تلميذه القديم وامتدح ذكاءه وشخصيته لصديقه الإنكليزي.

ورغم أن أغلب المشروعات التي كان يخطط السان سيمونيون لتنفيذها في مصر لم تكتمل على يديهم وحصد ثمارها غيرهم، إلا أنه يحسب لهم أنهم كانوا أول من بدأها بالدراسة والتخطيط، كما كان لهم دور في الانخراط في المجال الطبي والتعليمي لا يجب أن ننساه.

دلالات