أتفعلين ما فعلت؟

أتفعلين ما فعلت؟

20 مايو 2018
+ الخط -
الإنسان دائما ما تكون لديه قناعات ثابتة لا تتغير، وخصوصا عندما تكون القناعة مصدرها العقل؛ فهو الذي يختارها ويتحكم بمدى تأثير العوامل المحيطة بها، وتعتبر القناعة من النعم العظيمة التي ينعم بها أصحاب القلوب السليمة بفضل من الله سبحانه..

وإذا ابتعدنا عن العقل قليلا، فإن الإنسان سيقع في أمور لم يكن ليقتنع بها يوما؛ لأنه سيتبع هذه المرة قلبه ويقع فيها دون قرار منه وبصرف النظر عن قناعة العقل، لقد كان شاب اسمه محمد، وكان مقتنعا كل الإقتناع بأنه لا يوجد ما يسمى حب إلا بعد الزواج، وفي حياته لم يعطِ اهتماما لأي فتاة، فهل ظل قنوعا أم كان لقلبه رأي آخر؟

محمد، طالب جامعي ويكاد أن يكون معروفا من قبل الجميع، إنه يساعد كل من يحتاجه، وكان أثره يبقى مضيئا يهدي النَّاس في ظلمات الحياة، حسّان لطالما مدحه وأثنى عليه، فهو صديقه المفضل في الجامعة، ومحمد كان دائمًا ما يتحدث بأنه يتمنى أن يرزقه - الله سبحانه وتعالى - بزوجة تكون دليله إلى الجنة، تصلح ما فسد من قلبه، ترده يمينا كلما ابتعد عن النهج وأصبح شمالا، فهو لا يقف أبدا في صف الحب الذي يُبتلى به الشباب قبل الزواج، أمّا خالد فلا يعجبه قول محمد وكان يَتلقى الكلام الذي يقوله محمد كالسّم، فيعارضه في كُل صغيرة وكبيرة. إن محمدا شاب متواضع، وزاهد في هذه الدنيا، ويقول: في ظلِّ الإيمان يرفعُ الإنسان رأسه، ولا يَخْشَى إلا ربه، وإن أفضل الكلام ما يغنيك قليله عن كثيره، فرأس التقوى الصبر، وتحقيقها العمل، وكمالها الورع، وإن هذا الطريق وعر ولكنه أكثر نفعا.

يقول الشاعر: ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي. كان محمد يُردد هذا البيت كثيرا، ولا يجالس إلا مَن كثر علمه، وحسنَ خلقه، وطابت سرائره. كان كثيرا ما يقدم الوعظ والنصائح لأصدقائه، وفي الجامعة كان بالكاد يرفع رأسه، لكي لا ينظر إلى أي فتاة ولو من غير قصد، كان دائما ينشد قول الشاعر: إذا لم تصن عرضا ولم تخش وتستحِ مخلوقا فما شئت فاصنع. لم يكن أحد أطلق منه لسانا، ولا أكثر أدبا، فكان يصوم عن المنكر، ويفطر على مكارم الأخلاق، تمشي الأيام والسنون في الجامعة، والقصة تباشر على النهاية؛ فها هم في نهاية مشوارهم الجامعي. يتمشّى الأصدقاء في باحاتِ الحرمِ الجامعي، ويرونَ محمدًا، ولكن هذه المرة كان ليس محمدا المعروف لدى الجميع؛ إنّه يتحدثُ مع فتاة متبرجة أيّما تبرج، لقد خيّم الصمتُ وبدت علامات التعجب تظهر في وجوه الأصدقاء، حسّان يعرف محمدا أكثر ممّا يعرف نفسه، وقد يشكُ في نفسِه ولا يشك فيه، إنّه أنقى مِن ضوء القمر، وأصفى مِن الماءِ الزلال، وأرق من أنفاس الصبا، فرُبّما تكون هذه مِن بين أقاربه، أو فتاة تريد أن تسأله سؤالا عابرا لا غير، أمّا خالد والأصدقاء فبدأ الظن يسري في قلوبهم.

أصبح الأصدقاء لا يتحدّثون إلا عن تلك الحادثة، وما زال حسّان يدافع عن محمد، ويقول: عِندما نراه سنسأله عمّا رأيناه عليه، وسوف يجيبنا؛ فهو معروفٌ بكرمِ الأخلاق والصدق عند التلاقي، وبعد انتهاء المُحاضرة التي كانت تجمعهم، ذهبَ الأصدقاء نحوَ محمد، وسألوه عَن تلكَ الفتاة، فنظر محمد إلى الأرض كالمُسّن الذي يبحثُ عَن شبابه الضائع، ولم يلقَ جوابًا فمشى، فأوقفه خالد، ووضع يديه على لحيته وأنشد مستهزئا به قول الشاعر: "ألا ليت اللحى كانت حشيشا فنعلفها خيول المسلمينا"، رفع محمد رأسه وكأنه استعاد شيئًا مِن شبابه، وردَّ عليه بما يحفظه من الشعر: "وقل للشامتينَ بنا أفيقوا إن نوائب الدُّنْيَا تدور"، لقد عرف الجميع الأمر، وأصبح واضحا أمامهم كالبدر ليل الست بعد ثمانِ، لقد صيد قلب محمد، وأصبح تائها.

محمد لم يتغيّر بعد، ظلَّ مُتمسكا بعاداته التي نشأَ عليها، وبقيَّ حسّان عصاه التي يتكئُ عليها كُلَّمَا أحسَّ بأنّه سيسقط، وَأَمَّا بقية الأصدقاء فتركوه عالقا في البئر وأكملوا السيّر كما أكمل قبلهم إخوة يوسف. جميع النّساء يستطعنَ أن يلدنَ الذكور، ولكن المواقف هي التي تحدد الرجال، فليس من السهل أن تكون مستعدا لأن تقف بوجه مثل هذه المواقف؛ فلم تولد مهيأً لها بالطبيعة، ويجب عليك أن تتهيأ بأقصى سرعة، وأن تعتمد على ما اكتسبته من خبرات ومعارف في حياتك، وإن تأخرت في الأمر سيتجه إلى ما هو أسوأ من ذلك، هكذا همسَ حسّان في أُذِن محمد، ليسترجع قواه مُجددا ويقف أمام الواقع. محمد كان عنده مصحفًا يلازمه أينما ذهب، هو أغلى ما يملك، كما يقول، فأمسك مصحفهُ وفتحه وكَتَب ورقة صغيرة كان محتواها: أعلمُ أنّي أظلم نفسي ونفسكِ وأُتعبُ قلبي وقلبك، وأن ما نملكه مِن الحديثِ يناقضُ ما هو موجود في القرآن، فلا أريد أن تجمعنا معصية، تحول بين توفيقنا في هذه الحياة.

وَمِن ثمَّ أرسله إليها، فقرأت ما كتب وتأثرت بما قاله، فكتبت له: لك عهد المؤمنات من أهل النّور ألا تراني إلا كمّا كنت تحدث أصدقاءك عما تتمناه، ولن أنتظر منك حديثا أبدا إلا عندما يجمع الله بيننا في الحلال. وبعد أيام قليلة مرت من أمام محمد وأصدقائه فتاة بالمواصفات نفسها التي يتمناها محمد في زوجته - مستقبلا - ورأت الفتاة محمدا واتجهت نحوه مهدية له مصحفًا وردًّا على رسالته.